العدد 3591 - الجمعة 06 يوليو 2012م الموافق 16 شعبان 1433هـ

اعتزال الناس والأمل المكتسب

منصور القطري comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

يصف بعض المفكرين والباحثين عصرنا هذا بأوصاف صاغوها على شكل تساؤلات منها: هل نحن نعيش عصر العلم والمعرفة؟ أم نعيش عصر الرعب النووي؟ أم عصر الاغتراب والقلق والوحدة؟

ومفهوم اعتزال الناس أو الاغتراب في الفكر الإسلامي الديني والفلسفي عرف بمعنى الاغتراب عن الحياة الاجتماعية الزائفة، والاغتراب أيضاً عن النظام الاجتماعي غير العادل؛ فأغلب الذين يعتزلون الناس هم الذين قاوموا الحياة ومغرياتها بطريقة إيجابية وسلبية فقهروا السلطتين معاً، سلطة الحاكم بالانحياز إلى الحق، وسلطة النفس بترويضها على الطاعات.

ولطالما أمضى علماء الأخلاق أوقاتاً طويلة في بحوث مستفيضة محاولين الإجابة على تساؤلات ملحة مفادها: هل العزلة أفضل أم الاجتماع؟ ولطالما مضى فريق منهم يستشهد بالروايات الدالة على صواب رأيه والمحببة للاعتزال، فيما يورد الآخر الروايات التي تشير إلى فضيلة المعاشرة والتواصل مع الناس. والمحذور الأخلاقي لدى المؤيدين للاعتزال هو قابلية انغماس وانشغال الإنسان الاجتماعي بالحاجات العامة ونسيانه لواجباته الروحية وتهذيب نفسه، أو أن يؤدي إكثاره من المخالطة إلى الوقوع في محاذير النفاق أو الكذب؛ لذا فهم يفضلون العزلة والانكفاء عن الناس حتى بالغ بعضهم وقارن بين صفات الحيوان والإنسان في لغة منحازة وغير مباشرة لتجنب مخالطة الناس، كما فعل ابن المرزبان المحولي (309هـ) في كتابه «تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب»!.

يمكننا القول هنا وبشكل موجز: إن للغربة في المفهوم الإسلامي نوعين: غربة ممدوحة وهي غربة أهل الله التي امتدحها سبحانه وتعالى، وغربة مذمومة وهي غربة أهل الباطل. إلا أن العلامة ابن القيم الجوزية يضيف نوعاً ثالثاً وهي غربة مشتركة: لا تحمد ولا تذم، وهي الغربة عن الوطن، فالناس كلهم في هذه الدنيا غرباء، فهي ليست بدار مقام ولا هي بالدار التي خلقوا لها.

أما المقاربة الرائعة فقد جاءت في كتاب «فقه العلاقات الاجتماعية» للشيخ فوزي أل سيف، الذي أكد على أن المعاشرة والانفتاح الاجتماعي هو المطلوب، وهو الأولى دينياً، حيث يتجسد ذلك في جملة من العبادات كصلاة الجماعة والجمعة والعيدين والحج، وإفشاء السلام والمبادأة به وزيارة العلماء والصالحين والمبادرة إلى مساعدة الغير.

ولأن علم السلوك علم حاذق وجميل يسلط أنواره الكاشفة على مناطق سلوكية جاذبة للانتباه؛ فقد لفت العديد من الباحثين الانتباه إلى عدم التركيز على النشأة التاريخية للاغتراب فحسب، بل يجب عدم إهمال الاهتمام بالأسباب.

وفي سياق الحديث عن أسباب الاغتراب (Alienation) يذكر كنيستون في كتابه «اغتراب الشباب في المجتمع الأميركي»، أن الاغتراب يحدث في كل المجتمعات باختلاف أنماطها الثقافية والسياسية والاجتماعية؛ فنظرية الاغتراب تحمل معاني تشاؤمية ولا يتحدد وجود الاغتراب بعوامل معينة. بينما المفكر العربي حليم بركات يذهب في كتابه «المجتمع العربي المعاصر» الصادر عن مركز الوحدة العربية إلى أن المجتمع هو المسئول عن وجود ظاهرة الاغتراب؛ فالمجتمع العربي -كما يرى حليم- يحيل الشعب وفئاته المحرومة إلى كائنات عاجزة لا تقوى على مواجهة تحديات العصر.

لكن العالم اريكسون يؤكد في نظريته حول «أزمة الهوية» أن فترة المراهقة حاسمة في نمو هوية الأنا لدى الفرد، حيث يكون المراهق هدفاً مركزياً مما يعطيه إحساساً بالتوحد وتحديد هويته، فيدخل مرحلة الألفة والانتماء. فعدم تحديد الهوية للمراهق يؤدي به إلى الشعور بالاغتراب.

وفي هذه الأيام تتصاعد ظاهرة اعتزال الناس، فلم تعد هذه الظاهرة مقتصرة على المجتمع، بل هي آخذة في الزحف حتى على مؤسسات العمل حيث تقدر إحصائيات «غالوب» أن اعتزالية الموظفين disengagement تكلف الاقتصاد الأميركي نحو ثلاثمئة مليار دولار سنوياً، وأن نحو سبعة عشر في المئة من الموظفين منعزلون انعزالاً حاداً. كما أوردت دائرة الخدمة المدنية البريطانية إحصائية تشير إلى أن 22 في المئة من موظفي القطاع العام منعزلون.

وبالرجوع إلى أدبيات الاغتراب الوظيفي في مؤسسات العمل، تشير الدراسات إلى أن مستوى اندماج الناس يتراجع مع امتداد خدمتهم في منظماتهم. وأن العزلة تمر عبر ثلاث مراحل: المرحلة الأولى الاغتراب النفسي ثم مرحلة الاغتراب الذهني وثالثاً مرحلة الاغتراب الجسدي.

في المرحلة الأولى يشعر الموظف أنه مهمش، وأن علاقته بالمؤسسة التي يعمل بها غير طبيعية ومتوترة، وتتشكل لديه في هذه المرحلة مشاعر سلبية تجاه المؤسسة. أما المرحلة الثانية فتتميز بالشرود الذهني وعدم القدرة على التركيز وتكثر أخطاء الأداء الوظيفي. أما في المرحلة الثالثة فيكثر الغياب والتأخر عن الدوام والخروج أثناء الدوام، وتكثر الاستقالات الجماعية من المؤسسة أيضاً.

العزلة ظاهرةٌ قديمةٌ حديثة، وأول طريق لقهر هذه الظاهرة (ولعله سر السعادة) يكمن في الصحبة السعيدة، أو ما يعرف حديثاً بـ»الأمل المكتسب» (learned optimism) وقد توج هذا الطريق قول سيد البلغاء الإمام علي (ع): «يسعد المرء بمصاحبة السيد».

إقرأ أيضا لـ "منصور القطري"

العدد 3591 - الجمعة 06 يوليو 2012م الموافق 16 شعبان 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً