العدد 3596 - الأربعاء 11 يوليو 2012م الموافق 21 شعبان 1433هـ

بين احتجاج البشر والجمل!

سوسن دهنيم Sawsan.Dahneem [at] alwasatnews.com

الإنسان مجبول على الكرامة، لا يمكن لأحد أن يغير فطرته، إلا إذا أراد هو العبودية وأعجب بها، وذلك لخلل في تركيبته النفسية أو الفكرية، الأمثلة والشواهد على رفض الحط من الكرامة في الحياة كثيرة، وتجلى هذا الرفض في الربيع العربي، الذي أثبتت فيه الشعوب أنها لا تقبل بالظلم أو الخنوع لحاكم تراه مستبداً ظالماً أو غير شرعي.

ما أثار انتباهي هو كتاب للباحث والكاتب البريطاني روبرت إيروين الذي وضعه بعنوان «الجَمَل... التاريخ الطبيعي والثقافي»، لم يأتِ فيه بجديد، لأنه في نهاية المطاف ليس لصيقاً بذلك الكائن، ولم يأتِ كتابه بشيء لا يعرفه العرب ممن ارتبطوا بذلك الكائن النبيل في خصاله وصبره ووفائه في الوقت نفسه. الذاكرة في المحيط من حولنا تحوي شهادات من واقع معايشة، وتجارب بعضها يذهب إلى حدود الأسطورة. بعير يعقر شخصاً أهانه بعد عشرة أعوام من الواقعة، ذلك الثابت والمكرر في الواقع/ الأسطورة.

يورد إيروين في كتابه المذكور الذي يقع في 263 صفحة أنجزها المترجم المصري أحمد محمود، وراجعها خالد المصري، وصدرت ضمن «مشروع كلمة» في أبوظبي، أن «للجمل طريقته في الاحتجاج على المعاملة غير المعقولة، وهي أن يموت»!

تلك هي طريقة الجمل في الاحتجاج. لكن ماذا عن الإنسان وطريقة احتجاجه؟ ذلك أمر يدعو إلى استنفار الدنيا؛ وخصوصاً إذا تم ذلك في البديهي من حقه، والبسيط من أحلامه. تلك المساحة لا حق له فيها إلا في حدود وضع حد لحياة لا تعني شيئاً بالنسبة إلى طرف الاحتجاج الرئيس.

البوعزيزي في تونس لم يكن أقل من بعير حين أوصل رسالته إلى طاغية قرطاج. حين تصل بالجمل إمكانية تمييز المعاملة التي يتلقاها فيضع حداً لحياته، لا بالانتحار المباشر لأنه لم يهتدِ بعد إلى ذلك؛ ولكن عبر إضراب عن الطعام حيناً، والاكتفاء بالتزام المكان من دون حراك عدا نفسية منتظمة، لا يمكن أن يتم انتهاكها بالمزاج. كل ذلك عرضة لأن يضع الجمل حداً لحياة لا يرى فيها جدوى بامتهان يعانيه ويتكرر.

لسنا مع أن يضع الإنسان حداً لحياته كلما ضاقت عليه سبل حقوق ومعيشة، ولا تحت أي ظرف من الظروف، ولا نملك أن نملي ذلك الرأي على الجمل موضوع كتاب إيروين؛ الذي حسم أمره، ولا قوة أو منطقاً في الدنيا يمكن أن يقنعه بإعادة حساباته. لكن في النظر العام، لا يمكن لمخلوق أن ينسجم مع حال الإهانة التي تطوله تحت أي عنوان أو مبرر أو حتى مزاج.

إذا كان الجمل، على صبره وتحمله وقدرته وتسخيره وأحياناً استعباده، لا يقوى على تحمل إهانة، فكيف يطلب من البشر أن ينسجموا ويصبروا ويتحملوا قائمة محدّثة ومطورة من الإهانات وما بعدها، بتعريضه إلى تجارب سلب الروح، أو ما قبل مراحلها بدرجات، إذا كان له حظ في الحياة أو ما تبقى منها؟

من قصص الذاكرة الشعبية التي لم تنقطع عن ذلك الكائن، أن ناقة وضعت حواراً، ذات يوم احتاج راعي الإبل أن يذبح ابن الناقة ليولم لضيوفه، شوهدت الناقة في اليوم الثاني وهي تدمع عيناها، وتصيح صياح الثكلى، وامتنعت عن الطعام، وتترصد صاحبها وتتبعه أينما ذهب لعله يرجع لها وليدها. ولكن دون جدوى، تزوج صاحب الناقة وكتب الله له أن ينجب ولداً، ولا تزال ناقته من حلاله.

كبر الطفل وأصبح يمشي والناقة تتبعه، ولم تنس ولدها. في ذلك اليوم اختفى ابنه، وبحث عنه في كل مكان، وفطن الأب إلى أن الناقة تتبعه كل يوم وصاح: «راح الولد»، وذلك ما حدث، فقد قتلته الناقة ثأراً لولدها الصغير، فقد بركت على الطفل إلى أن فارق الحياة.

ماذا عن الإنسان الذي يُنحر كل يوم، وتهان كرامته كل يوم، ويتم التعامل معه في أدنى وأحط الصور؟ ذلك جوابه في ما يحدث من اضطراب الحياة.

إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"

العدد 3596 - الأربعاء 11 يوليو 2012م الموافق 21 شعبان 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 8 | 9:23 ص

      تسلم اناملك

      قرات المقال مرة واعدت قراءته مرة اخرى فوجدته يتكلم عن حالنا بالفعل لدينا مجموعة من الناس لا تهتم الا بقول حاضر سيدي حتى نست رايها واستقلاليتها ونست ماذا تعني الكرامة . ولدينا ناس ضحوا بحياتهم من اجل نعيش . شكؤا استاذة على الطرح والاسلوب

    • زائر 7 | 8:34 ص

      آهات من الضلم

      لك الله يا شعبي كم عانيت وصبرة علي الألم الله يكون في العون

    • زائر 6 | 8:09 ص

      الفطرة

      هناك من يرفض ويعارض حتى الفطرة الطبيعية ويعتبرها جريمة ومن تلك الامثال الاحتجاج ، ينسى هؤلاء انهم عندما جاءو الى الدنيا بكوا وكان لبكائهم اسبابه ، فهل قام من يرعاهم بالعقاب ام باللطف وادراك اسباب الصراخ،والتي هي واجبات وجبها الخالق عليهم ؟ يدرك الرضيع بحقة المكفول من خالقة حيث يبث شكواه ويستخدم البكاء لطلب الحاجة والرعاية فهل قانون البشر فاق قانون الفطرة ؟ دنيا تريك العجب يلام المتألم ويثنا على المؤلم!!!

    • زائر 5 | 7:05 ص

      هل نحن كالكمل.

      مثلما هو معروف عن الجمل فهو لاينسى من اهانه بل وينتقم لنفسه ولو بعد حين. كما انه لايطيق العيش وهو مغبون. فهل نحن كذلك. مااصابنا اضعاف مضاعفة مما يصيب الجمال.

    • زائر 4 | 3:51 ص

      رائع

      كم انت رائعة عزيزتي سوسن انت مثال للمراة البحرينية الحرة الصبورة المكافحة المناضلة لا عدمنا الله وجودك وقلمك واحرفك جعلك الله دائما مصدر فخر لكل بحريني

    • زائر 3 | 3:46 ص

      جنيل

      مقال رائع جدا جدا ومفيد شكرا اختي استاذة سوسن على كل هذا الجمال الذي تتحفينا به نحن محظوظون بقلمك

    • زائر 2 | 1:25 ص

      ما حمل الحمار وما حمل الجمل؟

      ليس بخفي أن صبر الجمل يُبَيِّنُ للناس سموه إلى السماء من أين أتى. كما يمكن ملاحظة العكس في الحمار يحمل أسفار وصوته أنكر الأصوات.
      فهل الأحمال بالأوزان تقاس أم بشيء آخر؟
      وهل السكوت علامة الرضا؟

    • زائر 1 | 1:09 ص

      جملٌ جميلٌ وجماله ليس خلاب

      جمال لا مثيل له وليس مثير. فلا يلفت الأنظار ولا يسلب القلوب لبها لكنه جميل. فجمال الجمل لا يظهره شكله بل يظهره صبره. فأسمى وسمي الجمل لسموه بصبره الذي رفعه الى السماء.
      فهل من شيء أجمل من الصبر؟
      وهل كل ما ليس له بريق ليس من الجواهر؟

اقرأ ايضاً