العدد 3607 - الأحد 22 يوليو 2012م الموافق 03 رمضان 1433هـ

ليس جهلاً بالمقالات والأنساب... بل هو غياب الضمير

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

أورد علي بن الحسين بن علي المسعودي في تصنيفه «مروج الذهب ومعادن الجوهر»، «ذكر لي بعض إخواني أن رجلاً من العامّة بمدينة السلام رفع إلى بعض الولاة الطالبين لأصحاب الكلام على جار له أنه يتزندق، فسأله الوالي عن مذهب الرجل، فقال: إنه مرجئ (من المرجئة الذين تركوا الأمر لله فهو الذي يثيب أو يعاقب وهو خير الحاكمين) قدري (الذي يقول بالقدر، أي أن كل شيء مقدّّر من الله وبأمره) ناصبي رافضي.

فلما قصّه عن ذلك قال: إنه يبغض معاوية بن الخطاب الذي قاتل علي بن العاص، فقال له الوالي: ما أدري على أي شيء أحسدك: على علمك بالمقالات، أو على بصرك بالأنساب؟ وذكر في التصنيف نفسه «أخبرني رجل من إخواننا من أهل العلم، قال: كنا نقعد نتناظر في أبي بكر وعمر وعلي ومعاوية، ونذكر ما يذكره أهل العلم، وكان قوم من العامّة يأتون فيستمعون منا، فقال لي ذات يوم بعضهم وكان من أعقلهم وأكبرهم لحية: كم تطنبون (تكثرون القول) في علي ومعاوية وفلان وفلان.

قلت: فما تقول أنت في ذلك؟

قال: من تريد؟

قلت: علي، ما تقول فيه؟

قال: أليس هو أبوفاطمة؟

قلت: ومن فاطمة؟

قال: امرأة النبي عليه السلام بنت عائشة أخت معاوية.

قلت: فما كانت قصة علي؟

قال: قتل في غزاة حنين مع النبي صلى الله عليه وسلم.

ذلك يحيلنا إلى الجهل الذي يسم بعض من حولنا في كل شيء. جهل به ينطلقون في ادعائهم معرفة كل شيء.

أكثر ما يبرز في القصة الأولى التي بدأت بها المقال، هو الوشاية، وخلفية وإمكانات من يقفون وراءها. كل ذلك لا يهم. المهم أن تصل الوشاية وتحقق هدفها في الاجتثاث. أن يشي بما لم ير ولم يعرف. فقط عينه على مكان من يشي به. عينه على تحويل بؤسه الذي جاء من جهل أساساً إلى نعيم،على حساب شقاء من يشي به.

ما رد به الوالي على ذلك المدعي الزنيم في جهله لن تجده في كل وقت. ستجده غير قابل للنقاش؛ وخصوصاً في وقتنا المليء بنفخ الاحتراب واستقطاب أصحاب المواهب من الجهلة والمحترفين في الفتن، وبذلك تضيع حقوق، وتُنتهك حرمات، وتُستباح دماء، وتُستسهل انتهاكات بالجملة، من دون رادع من ضمير أو أخلاق أو ما يشي بشيء من المراجعة لكل ذلك الهراء، وما أكثره في أزمنتنا.

حين أستدعي شواهد من التاريخ، وحين أضع تلك الشواهد مقابل ما يحدث في تفاصيل متكررة من حولنا وكأنها جزء من سياسة إدارة «الرعية» وشئون الدولة، إنما لتأكيد ألاّ شيء تغيّر في الكثير من ذلك؛ سواء تم اعتماد شهادات الجهَلَة في الفتن؛ أو أولئك الذين يتصدّرون مساحات الرأي بشكل يومي، وهم والله لا يملكون أدنى قيمة من معرفة، وحتى اللغة التي يتم ترقيعها لهم لن تنجو من فساد جهل بيّن، لن يواري سوءته مصحح لغوي لن يشذ هو الآخر عن قاعدة الجهل ربما - وذلك من واقع خبرة - لأن موضوع التقويم والتصحيح لا يخلو من قناعة أنه ضالع في الافتئات والكذب والجهل والحنق والترصّد، تدفع من لديه ذرة حس إلى أن يكون في غياب بشكل أو بآخر مع موضوع تقويمه.

من يتحكّم في من؟ المراحل بقبضة مصادرتها لخيارات الناس. وليس كل الناس. تنتخب الناس الذين ترى أنهم من دون خيار أساساً وعلى استعداد لرهن أرواحها وقناعاتها وقيمها واستعدادها للوشايات كي تنجو على أقل تقدير وفي أفضل الأحوال تتحصّل بتلك المنجاة على فتات ترى فيه كنزاً، ولكنه دون الحطام بمراحل.

ما ترمي إليه القصتان لا يتعلق فقط بجهل في المقالات وصفر معرفة بالأنساب مقارنة بما نعايشه ونحيط بتفاصيله في الأزمنة الممعنة في رمادها، واستعداد رجال تلك الأزمنة لترك الأرض، وكأنها لم تضج بحركة وإنجاز إذا ما تعلق الأمر بشكوك وظنون في استهدافها، ولا يهم بعد ذلك مصدر تلك الظنون ومن يقف وراءها.

كمن سمع ورأى في سمعه نص شهادة معاينة وحاضرة. كمن حضر يتلقى الوشاية كتلقي بعضهم نص افعل أو لا تفعل. كأنك في منزلة بين منزلتين: أن تتجاوز امتحاناً لن يكون فيه انتزاع روحك؛ أو أن تكون على استعداد لأن تمثل النذالة في أكثر صورها جبناً واستهدافاً واستعداداً لبيع الجمل بما حمل.

وبحسب ترجمة المسعودي لطاووس بن كيسان الخولاني الهمذاني، أبو عبدالرحمن، وهو من أكابر التابعين تفقهاً بالدّين والحديث، كان جريئاً على وعظ الخلفاء والملوك وأصله من الفرس (يعني صفوي بهسْتَرة اليوم) ومنشأه في اليمن، كتب إلى عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه: إن أردت أن يكون عملك خيراً كله، فاستعمل أهل الخير. فقال له عمر: كفى بها موعظة.

لكن في هذا الزمن الأحول والأغبر استعمال أهل الخير فيه هلاك مصالح وتهديد وجود؛ عدا ضياع فرص الذين يدّعون معرفة كل شيء وهم لا يفقهون شيئاً في سبيل إلغاء ومحو وإقصاء الذين هم على النقيض منهم تماماً.

كم بيننا اليوم من يحلف بأغلظ الأيْمان أنه رأى ولم ير؟ كم بيننا اليوم من يتجاوز بعد تلك الأيْمان من أجل فتات ليزكي روايات يراد لها أن تبرز على السطح لخدمة أهداف مرحلة يقف وراءها مصابون بنهَم النسف؟ كم بيننا ممن لا علم لهم بالمقالات والأنساب والحوادث؟ المسألة لا تتعدّى التبرؤ من الضمير وليذهب الضحايا بعد ذلك إلى الحتف الذي يتسبب فيه غياب ذلك الضمير وفبركة الشهادات والإمعان في الأيْمان الغليظة والاستعداد لإعادة المحاولة إذا تطلّب الأمر؟

المأساة أن مثل أشباه أولئك هم من يقرّرون مصائر الناس في شهادات الزور والاستهداف. هم من يتصدّرون مشهد التحكّم في خلل الحياة لا استوائها.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3607 - الأحد 22 يوليو 2012م الموافق 03 رمضان 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 7:11 ص

      الكهنة ... الموقّـــــــرة

      أي شعور يختلج فؤاد الكهنة" ويبغونها عوجا " !!!،فهولاء جحدوا الحقائق ،وهم لم يجحدوا فحسب،بل صدّوا عنها،ونالوا منها ، واعترضوا سبيلها،وفي بيئة تفقه للفتن وتحتضنها لا بل وتفتديها ،الطامة الكبرى ربما حسبوا أنفسهم في بؤر اليقين والصواب والهدى إلا أنهم على أطراف محور الهمج لايمت للحق بصله ،حتى استبدّ بهم وفيهم الطيش " فضلّوا وأضلّوا " وتحياتي لكم ... نهوض

    • زائر 1 | 12:42 ص

      الجهل

      أجهَل من فرَاشة

اقرأ ايضاً