العدد 3684 - الأحد 07 أكتوبر 2012م الموافق 21 ذي القعدة 1433هـ

كلفة أن تكون حُرّاً

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

لن تكون حُرّاً حين يَهبُك أحدهم إيّاها. حين تُوهبُ الحرية ذلك يعني أنك كنت عبداً، وحين يَهبُك أحدُهم إيّاها لن تغادر واقعك الذي توهّمت أنك خرجت منه.

تماماً، مثلما لا يمكن لأحدهم أن يهبَك الحياة. لن يتمكّن كائناً من كان أن يهبَك الحرية. الحرية لا تُوهب. إنها هناك، في فصيلة دمك وأجهزة تنفسك وقدرتك على البصر أو البصيرة. إنها قدرتك على التمييز بين ما يُعليك وما يحطّ من قيمتك وقدْرك. إنها نزوعك الفطري والطبيعي إلى ما يُسْند حقيقة أنك هنا، في هذا العالم كي تمنحه المعنى الذي يكاد يذوي وينتهي، ولم يأت الفيلسوف الألماني نيتشه بجديد أو اكتشاف فارق حين أبهر العالم وقتها بمقولته: «جئنا إلى هذا العالم كي نمنحه معنى». الحرية هي المرافق لك من قبل أن تتشكّل نطفة في الرحم، ومن قبل أن تبرز ملامحك، ومن قبل أن تستعدّ إلى الخروج إلى العالم من تلك الرحم، ومن قبل أن تبدأ الحبْو والسير والنطْق والكلام والوعي والمساهمة في ذلك الوعي فيما يضجّ من حركة حولك في حياة أنت جزءٌ منها.

لكل شيء كُلفٌ في الحياة. لكل موقف ودور ورؤية وخيار. كُلفٌ لا يمكن أن ينساها أو يتناساها الإنسان. وأعني الإنسان الذي لا يمكن في أي حال من الأحوال أن يفكّر أو يتوهّم أن أحداً ما يملك عصَب قيمته (الحرية). الحرية في بُعْدها المسئول والطبيعي والمقرَّر من السماء قبل أن تقرّره بعض السُلَط على الأرض في انتباهة متأخرة مطلع القرن الماضي وبشكل منقوص ومخز في كثير من الأحيان؛ وإن سبق بعدها التنظيري قبل ذلك بعقود مع حركة التنوير والتحرر التي عرفتها أوروبا في القرن السادس عشر ومنتصف القرن الثامن عشر.

كُلفة أن تكون حراً، بإيمانك الذي لا يتزحزح بأنها حق لك لا فضل لكائن أرضيّ عليك حين تمارسها وترى أثرها على الأرض ضمن منظومة تشريعات لا تخضع للمزاج صعوداً يوماً وانحداراً وانهياراً يوماً آخر.

كلفة أن تكون حراً تبدأ بتحفز الذين لا يعنيهم أن يكونوا أحراراً شيئاً. لا يعنيهم ماداموا في صلب النهب والاستفادة من حوافز الفتن وغنائمها. كلفة أن تكون حراً، في الخروج على صنمية واقع يُراد له أن يكون قبلة ومزاراً. في أن تتجاوز كل آلة - وما أكثر تعدّدها - تعمل على إخضاعك ووضعك تحت وصايتها. في أن يتفتق عن إرادتك موقف لا مواربة فيه: أن تضع سبّابتك في عين الخطأ؛ وإذا استطعت ضع قدمك. سيكون ممتعاً وفارقاً أن ترى قدماً في عين هي في نهاية المطاف لا تختلف عن عين في اتجاه العدم متحسّسة إياه. عين من زجاج لا تشعر ولا مدى رؤية لها.

التفاصيل في كُلَف الحرية لن تسرّ كثيرين. ألاّ تكون سلعة بشرية معروضة للبيع والتداول في فاترينات السياسة وسجلّات المزايدين تحت أكثر من عنوان ويافطة، والمشبوهين بسجلّاتهم التي لن يمحو عارها وتفاصيل ذلك العار، الوقت وبشر الوقت. ألاّ تكون هدفاً للاستدعاء في درس وجلسات ومناورات المساومة. ألاّ تكون مشروع توقيع على بياض من دون أن يكون لك الحق في تفحّص ما وقّعت عليه؛ تماماً كما يحدث في جلسات الاستجواب التي فيها انتزاع أرواح قبل انتزاع اعترافات في البداهة العربية الراهنة في التعامل مع المختلف؛ أو حين يريد بعضهم جعله أو محاولة اختلاق اختلاف منه وفيه.

العالم اليوم لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتفق ويتسق ويتواءم ويندمج مع الذين لا خيار لهم. من لا خيار له لا حرية له. ومن لا خيار له ولا حرية له سيكون من دون شك عبئاً على الحياة وشرّاً مستطيراً على بني جنسه، وغيرهم من الأجناس.

ليس سهلاً الذهاب في هكذا توصيف في جغرافيات تعتبر الحرية بدْعة وتركّز على تأنيثها باعتبارها فتنة. كأن المرأة لم يتم الاكتفاء باحتقارها وتهميشها؛ بل والعمل على تجيير النصوص للتحذير منها، ومحاولة تجنّب المرور إلى طريق مؤدّية إليها.

من كُلف الحرية أيضاً ألا تتصالح مع الحياة كل الحياة حين تكون متواطئة مع الموت والإذلال والحطّ من كرامة الإنسان. الأكثرية التي يتم الاستشهاد بها في تجيير لا يخلو من خبثه لا يعطي صكاً وشهادة حسن سير وسلوك كي يذهب الإنسان في العدم الذي يُرسم له وتُدشّن نهاياته.

من كُلف الحرية ألاّ تصاب بصدمة أو دهشة حين ترى الموازين لا أثر يدل عليها، وحين ترى القانون لا ملامح أو إشارات أو طرق تؤدي إليه. حين ترى التافه والمتسلّق والمنتفع والمرتشي والفاسد والمتآمر في واجهة الشرف والوجاهة وعناوين هي بمثابة شيفرات تحتاج إلى المتورطين في ذلك الواقع كي يفكّوا رموزها. ومن مصلحتهم ألاّ يفعلوا. ولن يفعلوا!

من كُلف الحرية أيضاً أن تقرّر أنك لست متاعاً وشيئاً يتبع أحدهم. مهما كان ذلك الـ «الأحدهم». لا مخلوق في الدنيا مهما بلغ من قوة وبطش وفائض غرور يملك الحق في أن يهين ويريق كرامة بني البشر كي يتأكد ويختبر كرامته. لا كرامة في تأكد واختبار بالمواصفات والظروف تلك.

ومن كلف الحرية ألاّ ترتضي لنفسك التفرّج على انتهاك طهارة الحياة بمزاج يهينها اليوم وينتهك كرامتها وحرماتها غداً. مزاج نظر أحدهم للخلق باعتبارهم إرثاً له وضمن حُزمة مقتنياته.

ومن كُلف الحرية أن تحيا كما وجدت على هذه الأرض؛ بالهدف والمرام اللذين قيامك بهما جزء من معنى وقيمة تلك الحياة؛ لا كما يريد لك احدهم أن تحيا وفق شرطه وقوانين «تضبط» وتكرّس امتهانك وإذلالك. لن تكون حياة بذلك «الضبط» وذلك التكريس. ستكون أشبه بانتحار مجاني على الهواء مباشرة.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3684 - الأحد 07 أكتوبر 2012م الموافق 21 ذي القعدة 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 4:36 ص

      نحيا و نموت أحرار

      الحسين عليه السلام لم يبايع لانه يريد ان يحيا حُراً و لم يُستشهد و يضحي بنفسه و عياله و اهل بيته و قدّم اغلى مالديه الا من اجل الحرية و لإحياء الدين و اعلاء كلمة الحق ألا تستحق تلكم التضحيات الا ان نكون احرار في دنيانا و نرفض الظلم بكل انواعه.

    • زائر 1 | 4:34 ص

      الله

      نشكرك على هذا التنوير لمعنى الحريه,نعم للحريه ثمن باهض وهانحن ندفعهاليوم لانيل الحريه والكرامه التي أنتزعت طوال القرون الماضيه وهذا الشعب مصمم ولاتراجع لان في التراجع انتحار,

اقرأ ايضاً