العدد 3689 - الجمعة 12 أكتوبر 2012م الموافق 26 ذي القعدة 1433هـ

نظرية القنفذ والثعلب

منصور القطري comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

جاء في موروث الأدب العالمي أن القنفذ علم يوماً بأن الثعلب سيدخل مغارة الأرانب ليأكل منها ما يريد، فهتف: آه منك يا مكار! لن أدعك تنفذ جريمتك. وسار القنفذ بحزم مسرعاً وأخبر الأرانب بالأمر وقال: لا تخافوا، وكوّر نفسه عند مدخل المغارة. وقف الثعلب أمام باب مغارة الأرانب ونظر إلى إبر القنفذ الحادة، ثم هزّ رأسه ومشى بعيداً وهو يتمتم في نفسه: من أين جاء هذا القنفذ في هذا الوقت؟

هذا النص الجميل يذكّرنا بقصيدة يونانية قديمة للشاعر أرخيلوكوس يقول فيها: «لدى الثعلب أفكار كثيرة ومتنوعة، أما القنفذ فليس لديه سوى فكرة كبيرة واحدة»، وقد استفاد من هذه الأبيات الشعرية الفيلسوف البريطاني أشعيا برلين، حيث بنى وأسس على تلك المقولة فرضية لأسلوبين متناقضين للقيادة: أسلوب القنافذ وأسلوب الثعالب.

وبرلين ليس متخصصاً في علم الحيوان، ولكنه قام بإشارة توصيفية إبداعية إلى أوضاع البشر السلوكية. فالثعلب يسعى وراء غايات عدة لا تتعلق إحداها بالأخرى، وقد تكون متناقضة في كثير من الأحيان، بينما القنفذ له رؤية داخلية محدّدة تتسم بالثبات والشمولية.

وفي تراثنا العربي قام العديد من الشعراء والأدباء بملامسة النزعة الثعلبية، ومنهم طرفة بن العبد، وهو شاعر جاهلي من شعراء المعلقات، ومن أهالي شرق الجزيرة العربية حين قال: «كلهم أروَغُ من ثعلبٍ... ما أشبه الليلةَ بالبارحة». والعرب لهم إشارة إلى سمة من سمات الثعلب بقولهم «أدهى من الثعلب». ويذكر الجاحظ في كتابه «الحيوان» أن الثعلب إذا طارده الصيادون تماوت وزكر بطنه ونفخه فيتوهم من يراه أنه قد مات من يوم أو يومين، حتى إذا تعداه الصياد، وشم رائحة الكلاب وثب وثبةً ونجا!

كما ذكرت مخطوطة تراثية قام بتحقيقها رينيه خوام بعنوان «السياسة والحيلة عند العرب»، كلاماً عن صفات القائد المثالي، حيث استشهدت الوثيقة بكلام لعظماء الترك حين يقولون: «ينبغي للقائد أن يكون فيه من أخلاق البهائم ما يلي من الصفات: شجاعة الديك وجرأة الأسد وحملة الخنزير، وحراسة الكركي، وحذر الغراب، وغارة الذئب، وروغان الثعلب، وصبر الجمل». إلا أن الثعلب قد اشتهر من بين الحيوانات باستعماله الحيلة والمراوغة، والكتاب لا يذم الحيلة مطلقاً ويذكر مثالاً طريفاً «رأس لا حيلة فيه قرعة خير منه».

وعلماء السلوك لهم وقفة علمية عن سلوك الحيوانات، وعلى الخصوص القنفذ والثعلب مقصد حديثنا، ويتعلق بمسألة الحوافز. فقد يعمد البعض إلى التعامل مع دوافع الشخصية الإنسانية واحتياجاتها بطريقةٍ واحدةٍ وكأن الناس سواسية تجاه كل الحوافز.

في هذا السياق يصنف بعض علماء السلوك ردود الفعل إلى نمطين: الأول بسيط ويسمّى بأسلوب «القنفذ»، والثاني معقّد ويسمى بأسلوب «الثعلب». ولتوضيح الأمر يمكن القول ان القنفذ حيوان له جلد مكسو بشوكات إبرية مؤذية لمن يلمسها وكل ما يفعله القنفذ هو أحد تصرفين: إذا استفز تبرز الشوكات لدرء الخطر، ويصبح كرة هامدة ثابتة لا تتحرك. والقنفذ عندما يتخذ حالة الكورة فهو يعبر عن حالة عدم ارتياح. وإسقاطاً على الوضع القائم في وطننا العربي يلاحظ هذه الأيام كثرة حالة القنفذ المتكور على نفسه عند الناس باعتبار هذه الحالة استجابةً بسيطةً واحدةً لعشرات من حالات الإحباط المختلفة، لكنه في النهاية جوابٌ واحدٌ يشير لعدم الارتياح.

أما سلوك الثعلب فعلى العكس تماماً، فكل حالةٍ أو ظرفٍ نجد السلوك الثعلبي يعد لها العدة ويصطنع لها الحلول وكأنه يتبنى النظرية الموقفية في القيادة وهي من أحدث النظريات. ومن البشر من يماثل الثعلب في سلوكه، أي بالقيام بأكبر عددٍ من الاستجابات لكل طارئ، وقد وصفهم البعض بالانتهازيين، باعتبار أن رائدهم الثعلب، فهم يغتنمون الفرص. يقول الفيلسوف الهولندي ايرازموس: «للثعلب عدة حيل وللقنفذ حيلة واحدة... لكنها أحسن الحيل».

وتجاوز بعض علماء النفس بالسلوك القنفذي إلى مهارة التعامل بين البشر انطلاقاَ من قصة القنافذ التي كانت تعاني البرد القارص فاضطرت إلى التلاصق طمعاً في الدفء، لكن أشواكها الحادة منعتها من ميزة الاقتراب فابتعدت، فآلمها شدة البرد فدخلت في حيرة من أمرها، أي بين ألم الاقتراب وألم البرد، فكان خيارهم العقلائي التقارب المدروس القائم على الانتفاع من التقارب بدون ألم. بمعنى أن تقترب بشرط عدم إيذاء الذات وفي الوقت نفسه لا تبتعد كثيراً على حساب أمنها وراحتها. ويضع الإمام علي كرم الله وجهه شرطاً جميلاً في المعاشرة «تعاشروا كالإخوان وتعاملوا كالأجانب».

الكاتب بن ماكنتاير ربط بشكل رائع بين استخدام الانترنت وطريقة تفكير الناس، مشبهاً الفرق بين قارئ الكتاب وقارئ الانترنت مثل الفارق بين سلوك القنفذ والثعلب. القنفذ كعادته يعرف شيئاً واحداً كبيراً، والثعلب يعرف أشياء كثيرة صغيرة، ويترتب على ذلك أن القارئ يستطيع أن يصنّف نفسه. فإذا كنت قنفذيا فإنك تجلس وتسيطر عليك فكرة كبيرة مهيمنة، أما القفز بخفة هنا وهناك فمعناه أن الانترنت استطاع أن يجعل منك ثعلباً انترنتياً.

التصوير هو فن تثبيت الحياة وتوثيقها، والإبداع الفني أصر هنا إلى أن تكون له لمسة إنسانية على نظريتنا فقامت المخرجة الفرنسية منى عشاش - ذات الأصول العربية - بإخراج فيلم «القنفذ» المستوحى من الرواية الفرنسية المشهورة «أناقة القنفذ»، حيث يركّز الفيلم على أرملة فقيرة تعمل حارسة لعمارة، مظهرها قاسٍ لكنها شعلة من الذكاء، لذا يتقاطع المزيج الإنساني فنياً بين المظهر والجوهر.

اما البروفيسور كولينز فقد توصل مع فريقه البحثي المكون من 21 باحثاً متخصصاً، إلى مفهوم القنفذ مقارنة بالثعلب، والذي أسماه (Hedgehog Concept) في كتابه (good to great) حيث يشير فيه إلى نمط من القادة القنافذ. فهم ليسوا من القادة الذين نطالعهم في الصحف من ذوي الاستعراض لإنجازاتهم، أو من محبّي الشهرة والسمعة والظهور الكبير. إنهم قادةٌ لا يحبون الظهور، ويتجهون نحو طمس أنفسهم كما يتمتعون بهدوء وروية إلى جانب كونهم متحفظين وحذرين، وفوق ذلك كله فهم خجولون ومتواضعون وذوو مهنية عالية.

هذا التوصيف الإبداعي للقادة يلامس أزمة المواطن العربي الذي يتطلع شوقاً إلى قنفذ يمسك بدفة القيادة، فالناس هنا في حالة تيهان ولا تدري إلى أين تتجه المسيرة!

نعم، المواطن العربي لديه طموح واضح في العيش بكرامة، ولديه فكرة كبيرة واضحة عن مشروع تنمية الوطن، لكن مشاعره الداخلية مسكونةٌ بالقلق، وبأن القافلة قد تكون في الاتجاه الخاطئ.

في تقديري هذه النظرية تصلح كمنبه حقيقي للوعي بالذات وبالأنا الجماعية، بحيث نستطيع بواسطة التثاقف والكتابة أن نحيل الكلمات والحروف إلى آمال ووطن كبير. وأما وقوف القنفذ في الحكاية الافتتاحية فلعلها ترمز إلى حاجة الأمة إلى قيادي قنفذي مبادر، فعربة الإصلاح في وطننا العربي بحاجةٍ إلى حصانٍ لكي نتحرر جميعاً من ثالوث الاضطهاد: اضطهاد الطفل والمرأة والفقير.

إقرأ أيضا لـ "منصور القطري"

العدد 3689 - الجمعة 12 أكتوبر 2012م الموافق 26 ذي القعدة 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً