الإنسان والمكان علاقة قديمة قِدَم الأزل، تربطهما روابط الاستقرار والترحال، النسيان والذكريات. العلاقة موجودة بالتأكيد، مهما كانت طبيعتها. لكن ما سر تعلّق الأرواح ببعض الأماكن؟ لا بد أن أحدكم شعر بذلك النسيم اللطيف الذي يعبر القلب عند دخول بيت من بيوت الله، أو ذلك الدفء الذي يغمر الوجدان عند المكوث في بيت الجد يوم الجمعة.
لم أكن أعرف تفسيراً لهذا الرابط العجيب الذي كان يربطني بعدد من الأماكن في العالم، العزيزة على قلبي أو تلك التي أراها لأول مرة. بل إن بعض الأمكنة التاريخية والأثرية التي زرتها للمرة الأولى؛ أخذتني إلى عوالم أخرى من الشعور! شعور جعلني أكثر فضولاً للبحث عن تفسير لهذه الظاهرة الغريبة.
وجدت حل هذه الأحجية في حصة «تاريخ العمارة» في الجامعة :Genius Loci باللاتينية ، ترجمتها الحرفية «عبقرية المكان» وتستخدم للتعبير عن روح المكان. في العصر الروماني كان لهذا التعبير خصوصية دينية؛ حيث اعتبر الكهنة أن للأماكن المقدسّة أرواحاً تحميها، مما يعطيها جوّاً من الرهبة والقدسية. لم يتوقف هذا التعبير عند الرومان؛ فقد انتقل عبر الزمن إلى كثير من الحقب المعمارية المتتالية، وأُعيدَ ترسيخه في العمارة المعاصرة باعتباره من المبادئ الأساسية للتصميم المعماري، ولا سيما تصميم الحدائق والمساحات الخضراء Landscape Design.
النقاش حول «روح المكان» و مدى تطبيقها في العمارة الحديثة يطول ويطول، وذلك لافتقار المدن الجديدة إلى البُعد التاريخي الساحر أو العناصر البيئية التي لها تأثيرها الخاص على روح المكان. درس الكثير من المعماريين هذا المبدأ بواسطة علم الظواهر Phenomenology، و أبرزهم المعماري النرويجي Christian Norberg-Schulz الذي توصّل إلى عدّة حقائق أقتبس منها: «لروح المكان اثنتان من الدلالات: المعنوية والهيكلية. الدلالة المعنوية هي الجانب الشخصي للمكان، وكينونة أي شيء تكمن في علاقاته الهيكلية بأشياء أخرى، وهو أن المكان يتكون بفضل تجمع أشياء أخرى حوله».
تبقى التجربة الأدبية هي الأثرى، وهو ما خلّده التاريخ من خلال نصوص الشعراء والأدباء الذين تغنّوا بالأماكن التي ارتحلوا إليها ومكثوا فيها. وفي هذا السياق يسرد الكاتب محيي الدين اللاذقاني في كتابه «نورس بلا بوصلة» حكايا وأساطير أهم المدن التي زارها واصفاً مشاعره تجاهها. يخطفني هذا المقطع في المقدمة: «لقد كنت أرى المدن من خلال قصص الحب و أشعاره أكثر مما أجدها في وثائق الحروب والكراهية، فالسفر كالضياء فِعْلُ محبة يشرق داخل النفس لينير الزوايا المعتمة، وبذا تتلاقى وتتلاقح في لحظة ما في مكان ما مشاهد البصر مع تجلّيات البصيرة». و لولا روح المكان هذه لما أسهب الشعراء العرب في الوقوف على الأطلال في مطلع قصائدهم، فهي ذلك القناع الفني الذي يُسقط عليه الشاعر جملة أحاسيسه ويستر خلفها أوجاعه. أذكر مثالاً على ذلك عنترة بن شداد في نعيه لديار عبلة:
قفْ بالديار وصحْ إلى بيداها فعسى الديار تجيبُ منْ ناداها
لكل مكان شخصيّة لا تقل أهمية عن شخصيات البشر، فهنالك المدن التي تُحْزِنك والمدن التي تُشارِكك أفراحها. هنالك البلد الذي ليس له طعمٌ ولا لونٌ ولا رائحة، وهنالك البلد الوطن. أتوقف أحياناً وأتأمل هذا التنوع، ونوع الحياة المنبعث واللون الذي تُرسم به الأحلام في سقف كل مكان من هؤلاء. أحياناً أشعر برحابة وتواصل كأنما أرواحاً تتصافح في الأثير، وأحياناً أخرى أتثاقل بقائي لأكثر من الاضطرار كضيفة غير مرغوب بها.
غدير الخنيزي
العدد 3689 - الجمعة 12 أكتوبر 2012م الموافق 26 ذي القعدة 1433هـ
ارواح
قف بالطواف ترى الغزال المحرم
حج الحجيج وراح يقصد زمزما