العدد 3712 - الأحد 04 نوفمبر 2012م الموافق 19 ذي الحجة 1433هـ

السياحة والسياسة في مصر الثورة... عودة الشمس إلى القاهرة

الأهرام... شواهد على حضارة ضاربة في عمق التاريخ
الأهرام... شواهد على حضارة ضاربة في عمق التاريخ

النيل الأزرق لا يفارق أحبته كل مساء، والأهرام الشامخة عادت لتحتضن عشاقها من شتى بقاع العالم، أفواجٌ تلي أفواجاً في قاطرة بشرية لا تتوقف، حناجر بائعي الخبز واللبن تصدح كل يوم مع ذروة الشروق مؤذنة بدخول النهار وصوت أم كلثوم يزغرد كل صباح في دهاليز القاهرة وزقاقاتها القديمة.

صورتان مغايرتان لمن يزور مصر في بواكير الثورة والآن، بدت لنا القاهرة في زيارتنا السابقة قبيل الانتخابات كسيدة تنتظر أن تضع مودلوها في مخاضٍ صعب، كان الترقب والقلق سيد الموقف في مصر ولكن اليوم عادت مصر إلى سمفونية البناء، وبدت تبصر طريقها شيئاً فشيئاً إلى حيث الاستقرار.

فالوضع الأمني يبدو الآن مستتباً للغاية، والشرطة عادت لتأخذ موقعها الطبيعي، كما عادت لرجل الأمن رمزيته، ولا تكاد تسمع عن حوادث غير مألوفة أو خارجة عن نطاق السيطرة، ويبذل كبار المسئولين في مصر ما بعد الثورة جهودهم ليقنعوا مزيداً من السياح للقدوم إلى مصر التي كانت ولا تزال وجهة مفضلة لملاين السياح سنوياً، فالوضع السياحي الآن لا يمكن مقارنته بالفترة ذاتها من العام الماضي.

القاهرة تعج بالناس والحياة والسائحين. والضجيج من أبواق السيارات القديمة يذكرك بعودة الشمس إلى القاهرة، ولا مفر من المرور على إحدى معاجز الهندسة في القاهرة وهو جسر 6 أكتوبر الذي تناطح قمته المباني الشاهقة، وهو جسر بات أثرياً يربط كل أجزاء القاهرة مع بعضها بعضاً، وكذلك مع كبرى محافظات مصر.

في «الحسين» قلب القاهرة النابض بالحياة ستتجول في الأسواق الأثرية الممتدة إلى خان الخليلي وتستقبل المقاهي الشعبية روادها حتى مطلع الفجر، خصوصاً في عطلات نهاية الأسبوع والإجازات. ستشدك مآذن الأزهر الشريف، ومقهى الفيشاوي الذي يقدم الشاي ويشاركك الجلوس فيه القطط الريشية المنعمة، وستمر على مقهى نجيب محفوظ الذي كتب فيه روائع رواياته.

على ضفاف النيل تتشابك أيدي العشاق، ويكحّل الناظر عينيه بالمياه المتدفقة الدائفة، وستغريه القوارب الصغيرة في جولة ممتعة في النيل بأصوات أغانٍ حديثة تمثل متنفساً للتعبير عن الألم والأمل، الوجع والفرح، هنا فرصة للبسطاء في نهاية يوم شاق لبث همومهم والمفارقة أنهم ينشدون نسيانها بفعل التذكر!

ستخطفك الأضواء ا في الزمالك التي تبدو عروساً تزفها المياه والأنوار من كل الجهات. وفي شارع الهرم المشهور ستتوقف حتماً عند المسرح الذي يقف عليه ملك الكوميديا المصرية والعربية حيث يستقبل عادل إمام محبيه من كل البقاع.

في القاهرة ستقف حتماً أمام المنصة التاريخية التي قتل فيها الرئيس المصري الراحل أنور السادات، في مدينة أكتوبر المتصلة بالقاهرة (والتي تستقطب آلاف الخليجيين من الطلبة والسائحين) تحولت هذه المدينة التي كانت فضاءً مفتوحاً في السابق القريب إلى نقطة جذب رائعة على غرار أرقى المدن العالمية من حيث المواصفات الفنية والجمالية والبيئة والطبيعة والمناخ الجذاب، ولذلك هي مرجحة أن تكون إحدى الوجهات الرئيسية للسياحة العائلية والتعليمية في مصر بسبب افتتاح حزمة من الجامعات الكبرى والمولات التجارية الكبرى.

كانت الأهرام وجهة سانحة لقضاء وقت ممتع في رحاب التاريخ والحضارة والجمال، ويتجمع آلاف السياح أمام واجهة الهرم الأكبر، وثمة مفارقة أن أحد سائقي الجمال أقر أنه شارك في واقعة الجمل، لكنه أوعز أن السبب الرئيسي هو أن الكثير من المصريين وجدوا بين عشية وضحاها أنهم سيفقدون مصدر رزقهم الوحيد المعتمد على السياحة التي تمثل الشريان الأساس للدخل القومي المصري، لكنه نفى أن يكون قد تقاضى أموالاً من أحد رغم إقراره أن مسئولين في مجلس الشعب السابق (مقربين من نظام الرئيس محمد حسني مبارك) هم من أوعزوا لهم بالذهاب إلى ميدان التحرير لمواجهة مركز المسيرات.

غير أن ميدان التحرير لم يعد الآن إلا مكاناً لذكرى كبيرة لثورة تاريخية حملت بالإخوان المسلمين إلى الحكم لأول مرة في تاريخ مصر. ويبدو أن السياح الأجانب أكثر حماسة من المصريين أنفسهم للذهاب إلى ميدان التحرير، وغالبية القوى السياسية المصرية أصبحت تبدي فتوراً لأية دعوات للتظاهر في الميدان، فهي أقنعت أكثر من أي وقت مضى بضرورة منح التجربة السياسية الجديدة وقتاً معقولاً لاختبار فاعليتها في الإنجاز.

سائق تاكسي شاب قال لنا- في الطريق إلى وسط البلد- إنه انتخب «الإخوان» ليكتشف المجهول، لكونه جرب النظام السابق لسنوات، لكنه رأى بأنه لم يحدث فرق حقيقي حتى الآن، في حين يرى الكثير ممن قابلناهم أن الثورة بحاجة إلى منحها بعض الوقت وبحاجة إلى نفس طويل لتحقق أهدافها، ولكن الجميع أجمع على أنه من الصعوبة بمكان الحكم على السلطة الجديدة في مصر بعد مضي أشهر معدودة على استلامها السلطة.

لم نشاهد في جميع المناطق التي زرناها صورة للرئيس المصري السابق، محمد حسني المبارك، ولم تعد أخباره المهيمنة على الإعلام كما هو الحال ما قبل الثورة أو بعدها، عدا خبر يتيم واحد ويتعلق بالقضية التي رفعها محاميان مصريان يطالبان فيها بنقل الرئيس السابق إلى سجن عسكري لكونه لم يفقد درجته العسكرية حتى الآن. وكان الفضول دافعاً للسؤال عن مستشفى المعادي حيث يقيم مبارك.

ورغم ما يقال عن تضييق على حرية الصحافة في مصر، لا تبدو الصحافة المصرية كذلك، فمستوى الحرية ليس أقل شأناً من السابق على الأقل، ففي إحدى الصحف اليومية الكبرى في مصر ينتقد كاتب بارز القيادة المصرية، معتبراً- على حد قوله - أن مصر بها ثلاثة رؤساء (مفترضين)، رئيسٌ من قيادات الإخوان أوصله نصف الشعب إلى كرسي الرئاسة، (رئيس مفترض ثانٍ) شاءت الظروف أنه أن يكون في مدينة خليجية بعد إعلان النتيجة، ورئيس ثالث كان حتى قبل عام ونيف رئيساً لجمهورية مصر العربية لعشرات السنين هو الآن مسجوناً وقابعاً في المستشفى».

على الصعيد العربي والدولي عادت مصر تدريجياً لتتبوأ موقعها الريادي، فالرئيس مرسي يستعد لزيارة عمل مهمة للولايات المتحدة يلتقي فيها الرئيس باراك أوباما، وذلك بعد سلسلة من مشاركاته في أهم القمم العربية والإفريقية والإسلامية، وكذلك أعمال الدورة السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة، وكانت مصر قد طرحت مبادرة بإنشاء مجموعة اتصال (تضم كل القوى الإقليمية اللاعبة في المشهد السوري) للمساهمة في حل الأزمة السورية.

كما أن مقر الجامعية العربية في وسط القاهرة يعج بالوفود السياسية والاقتصادية والثقافية التي تشارك في اجتماعات الوزراء واللجان الفنية العربية من مختلف الحقول و التخصصات.

الطريق إلى سيناء أكثر أمناً الآن، وذلك بعد عملية النسور التي نفذها الجيش المصري لمطاردة الجماعات المتشددة والتي كانت «السبب المباشر» في التغيير الدراماتيكي الذي اتخذه الرئيس مرسي في إحالة المشير طنطاوي إلى التقاعد في ليلة القدر.

طريق سيناء سالكٌ ولا يوقفك شيء سوى التقاط الصور التذكارية بالقرب من معالم جمالية وتاريخية، ومنها قناة السويس وهي من معجزات الهندسة والري، وكذلك مدينة العاشر من أكتوبر (مركز الصناعات المصرية)، كما توقفنا عند «جسر السلام» وهو من أعلى الجسور في مصر( وشيدته اليابان بعد اتفاقية السلام بين السادات وإسرائيل)، ولم نر له مثيلاً في ما سبق من البلدان.

عند نقاط التلاقي بين محافظات سيناء (شمال سيناء، رفح، العريش) ستجد ثكنات للجيش المصري على جانبي الطريق يعتليها شبابٌ في العشرينات من العمر غالباً، كما تزداد نقاط التفتيش في داخل مدينة العريش حيث شهدت حوادث أمنية في ما خلا من الأشهر الماضية.

الكثيرون هنا يلتمسون العذر للسلطة المصرية الجديدة (في مصر ما بعد الثورة)، وفي هذا الصدد قالت لنا سيدة مصرية بدت في الأربعينات من العمر (رغم أنها أخفت الجواب عن عمرها خلف ابتسامة صامتة): «نعرف أن الرئيس مرسي ورث وضعاً اقتصادياً مرهقاً بالديون، ومصر بوزنها وحجمها وتاريخها هي محط الأنظار، ولكن نحمد الله أن مصر هاهي تسلك طريقها ثانية إلى النور».

حين تغادر مصر ستعيدك الأشواق إلى أجمل أبيات شوقي: لم تنزل الشمس ميزاناً و لا صعدت ... في عرشها الضخم وادٍ مثل وادينا!

العدد 3712 - الأحد 04 نوفمبر 2012م الموافق 19 ذي الحجة 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً