العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ

الفساد المطارد والفساد المقنن

 

"لدينا 100 – 250 شخصا فاسدا في جهاز شرطة العاصمة... يجب أن لا نتسامح معهم وان نكثف جهودنا لاكتشافهم ومعاقبتهم". هذه إحدى الجمل المثيرة التي قالها المفوض العام لشرطة العاصمة لندن في مطلع شهر كانون الأول (ديسمبر 1997) أمام إحدى اللجان البرلمانية المتخصصة في متابعة أجهزة الأمن العام.
ويتابع المفوض العام قوله "أن هؤلاء يصعب اصطيادهم لأنهم مدربون بصورة فائقة ويعلمون كيف تلقي الشرطة القبض على المجرمين. وهم يستخدمون التدريب المتوفر لهم من خلال مهنتهم للقيام بأعمال إجرامية".
وإذا كانت هناك دروس من جلسة المساءلة هذه فإن أهمها هو أن الجريمة متغلغلة في جميع المجتمعات ولكن الفارق هو أن المجتمعات الديمقراطية أكثر تحملا وتستطيع الانتصار على الرؤوس والعناصر الفاسدة. فالنظام الذي يخضع للمحاسبة الشعبية تكون المسئولية فيه واضحة ويمكن حل المشاكل بصورة واضحة. أما في المجتمعات التي لا تسمح بالمحاسبة فإن النظام يقع ضحية لبعض المتنفذين الفاسدين. وهؤلاء المتنفذون لا يمكن محاسبتهم بأي وسيلة لان حرية التعبير ممنوعة وهؤلاء المتنفذون يتورطون في جرائم كثيرة بسبب توفر السلطة المطلقة لهم.
وتصبح المطالبة بحرية الكلمة والتعبير عن الرأي كالمطالبة بإسقاط النظام لدى هؤلاء المتنفذين لان حرية الكلمة تعني الكشف عن الجوانب التي قد تؤدي لاكتشاف اليد الفاسدة التي تمارس أعمالها دون وجه قانوني عادل. ولهذا لا يستغرب المرء من حجم العداء الذي يكنه المتنفذون بصورة مطلقة لكل من يطالب بالحريات السياسية. فاللمرء أن يتصور كيف يستطيع 100 – 250 ضابطا في شرطة لندن من ممارسة الفساد بالرغم من وجود المحاسبة، فكيف بالأجهزة المنية في الأنظمة الدكتاتورية التي لات تخضع لحساب؟
والفرق هنا وأضح أيضا. فبينما يخاف الشرطي الفاسد من العدالة في لندن، فإن الشرطي الفاسد في البلاد الدكتاتورية لا يخاف من أحد. فهو ورئيسه وأصحابه في المهنة يشتركون في إرهاب الشعب واحتجاز المواطنين دون تهمة ودون محاكمة أو تقديمهم لمحاكمات يديرونها مع أصحابهم الذين أطلق عليهم اسم "القضاء". الشرطي الفاسد وأعوانه لا يخافون من محاسبة برلمان لان هذا البرلمان لا يوجد في معظم الأحيان والشركي الفاسد في البلاد الدكتاتورية لا يحاف من محاسبة الصحافة لان الصحافيين المسموح لهم بالكتابة قد تم التأكد منهم.
فأولئك الذين يتطرقون لمواضيع الأمن الداخلي والسياسة غارقون إلى أذقانهم في ممارسة الفساد مع الشرطي الفاسد ورئيس الشرطي الفاسد.
وبدلا من قيام الصحافي بالتعبير عن الرأي العام والضغط على الحكومة للاستجابة لمطالب الشعب، فإن الصحافي يعمل "كمثقف" للسلطة ويمارس الضغط على الرأي العام لمصلحة الرأي الخاص.
يقول وزير في إحدى الدول الغارقة في النهج الدكتاتوري "أن مجلس الوزراء لم يناقش الوضع السياسي الداخلي ولا مرة واحدة. والوزير مثله مثل غيره، يسمع ويقرأ عن القرارات الحكومية لمواجهة المعارضة، ويسمع عن اكتشاف المؤامرات فجأة وكل مرة، مثله مثل أي مواطن آخر".
وعندما تسأله "لماذا تسمح أن يطلق عليك لقب وزير؟". يجيبك "ليس في اختيارك أن تقبل أو ترفض أن تكون وزيرا أو غير وزير. مادمت قبلت أن تداهن النظام فإنك خاضع لمزاجية القرارات التي تعطيك اسم وزير أو عضو مجلس معين أو إذا شاءت أن تطلق عليك اسم إرهابي يحاول قلب النظام".
أليست هي مأساتنا الحقيقة خضوع الأمة والدولة واقتصاد تلك الأمة وتلك الدولة لرغبات شخصية لا تخضع لأدنى مستوى من المحاسبة. أنها مأساة انتماء هذه الدول لمنظمة الأمم المتحدة القائمة على حق تقرير المصير للشعوب واحترام حقوق الإنسان. أنها مأساة مرور خمسين عاما على "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان"، الذي وقعت عليه جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بحكم عضويتها في الجمعية العامة. الدول الأعضاء (الغارقة في الدكتاتورية) لم تنشر الإعلان العالمي الذي وقعت عليه ولم تدرسه لشعوبها كما يتطلب الأمر. فالمواد الثلاثون للإعلان العالمي لحقوق الإنسان تدين كل دولة تمنع شعبها من حق المشاركة في إدارة شئون المجتمع، تدين كل دولة لا تسمح بحق الانتخاب، تدين كل دول تعذب مواطنيها، تدين كل دولة تميز بين مواطنيها على أساس عرقي – أو ديني، تدين كل دولة تحرم مواطنيها من حقوقهم الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية وغيرها.
خمسون عاما على إعلان العالمي لحقوق الإنسان وحكوماتنا تتوسع في بناء السجون بدلا من بناء المصانع. خمسون عاما على حقوق الإنسان وحرية التعبير تملأ المكتبات العالمية بالنتاجات الفكرية بينما مكتبات المحاكم "الأمنية" تمتلئ بنتاجات الاعترافات المسحوبة من بناء الأمة تخت التعذيب. خمسون عاما من الإبداع والاكتشافات الإنسانية في أي مكان من العالم ما عدا بلداننا التي تتوقف عن الإبداع في اكتشاف "المؤامرات" و"الانقلابات" و"شبكات التخريب" و"محاولات الإطاحة بالحكم".
وكل هذا يهون في مقابل التبرير المطروح رسميا بأن "عاداتنا وتقاليدنا" تختلف عن الآخرين وأن هذه العادات والتقاليد لا تقبل المحاسبة الشعبية الموجودة لدى الآخرين.

العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً