العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ

رئاسة مملة

من الميزات التي حظي با الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان انه استطاع إضفاء المرح على فترة رئاسته. فالشعب الأميركي في العادة لا يثق بالحكومة الفيدرالية كثيراً، وينظر اليها نظرات التحسب لما ستقوم به مما يعني مزيدا من الضرائب ومزيدا من القيود. ويأتي تعبير "العم سام" ليؤكد هذا المفهوم. فالعم سام كان يستخدم في الكاركاتير كرمز للحكومة الفيدالية التي تطلب المزيد من حكومات الولايات. "العم سام" مثله مثل "حنظلة" في رسومات المرحوم ناجي العلي، له صفات محددة في جميع الرسومات الكاركاتيرية.

فهو دائما يطلب المزيد من الضرائب ودائما يحاول التدخل في شئون الولايات ويطرح نفسه شخصا مسئولا عن الجميع.

الاميركيون وجدوا في فترة الرئيس ريغان المرح والنكتة، وكانت رئاسته في فترة اقتصادية غير سيئة بالإضافة لوجود العدو: "الإمبراطورية الشريرة". فالسياسيون الأميركيون بحاجة لتوجيه الطاقات نحو عدو مشترك، وبحاجة للشعور بالهيبة.

وذلك فان ريغان قال مرة انه شاهد فيلم "رامبو" ويعلم ما عليه القيام به لاستعادة المجد الأميركي. ريغان كان يخطأ كثيراً، فمثلا، عندما استقبل الأميرة ديانا في احدى المرات رحب بها قائلا: "مرحبا بالأميرة دايفيد"! وكان الأميركيون يسمعون ويشاهدون كيف تقوم زوجته بتصحيحه وإيصال بعض الكلمات إليه أثناء وقوفه بعض الخطب والتصريحات. ولكن الأميركيون كانوا مرتاحين منه، لأنه أضاف المرح على الرئاسة وابعد عنها الملل الذي يحيط بها. أما جورج بوش (الاب)، فبالرغم من قدراته التي تفوق قدرات ريغان لم يحظ بشيء مما كان لدى ريغان، لذلك لم يحصل على الرئاسة للفترة الانتخابية الثانية.

فهو ليس مرحا، ولم يكف الاقتصاد الأميركي حسنا، ولا توجد هناك "إمبراطورية الشر" (الاتحاد السوفياتي) التي كان ريغان يشير إليها دائما.

بيل كلينتون من نوع آخر. فهو من الجيل الجديد الذي لم يشهد الحرب العالمية الثانية. ويقرأ كثيرا، ولديه ما يقوله عن اي موضوع يتم التطرق إليه. فهو مثقف بلا شك، ولكنه يعلم انه حصل على الرئاسة للفترة الثانية لان منافسه الجمهوري كان من أكثر الأشخاص الجادين غير المرحين. وكذلك كان المرشح لنائب الرئيس الجمهوري.

ولعل القضايا التي تثار حول بيل كلينتون مؤخرا تأتي ضمن إضفاء نوع من المرح والأنسة لدى الشعب الأميركي. فالحديث عن نشاطه الجنسي وملاحقته للعاملات في مكاتبه لم تنقطع منذ وصوله للرئاسة. غير أن آخر اتهام له حول علاقته بآنسة عمرها 24 سنة في البيت الأبيض قد يحول المرح إلى حزن فيما لوثبت ضده أي شيء.

الاقتصاد الأميركي يمر في أحسن مراحله الاقتصادية للسنوات الماضية، وهذا يعني أن على بيل كلينتون أن يبحث عن أمر يوجه إليه الأنظار والطاقات الأميركية. وإذا لم توجد "إمبراطورية الشر" فقد يضطر للتركيز على أحدى الدول أو عدد من الدول واعتبارها العدو الأول والثاني لأميركا، لكي يستطيع حشد الرأي العام الأميركي باتجاه معين، أملنا أن لا يحدث ذلك، خصوصا بعد التحولات العالمية والسياسية خلال السنوات الماضية.

مشكلة الرئاسة المملة لا تخص الرئيس الأميركي وحده، فتقريبا جميع الرئاسات مملة وبحاجة لشيء من المرح الذي يضاف إليها. ففي الأسبوع الماضي قام أحد المذيعين في راديو كابيتال "Captial" في لندن بتقمص شخصية رئيس المعارضة البرلمانية في بريطانيا، السيد وليام هيغ. ومن خلال التمثيل الصوتي اتصل بمقر رئيس الوزراء البريطاني، توني بلير، بعد أن اقنع العاملين في البدالة الهاتفية انه رئيس المعارضة ويريد الحديث لرئيس الوزراء حول أمر هام، والمكالمة الهاتفية أذيعت على الهواء. رئيس الوزراء البريطاني، يبدو، انه عرف أن المتحدث ليس وليام هيغ ولكنه لم يغلق الهاتف، بل واصل المكالمة ضاحكا مما كان يقوله المذيع – الممثل.

الرئاسة مملة، ومللها قد يقضي على صاحبها، ويقال أن السيد روكفلر الذي أصبح مليونيرا وهو في مطلع الثلاثينات وأسس شركة النفط العالمية "ستاندراد اويل" كان مملا ويشعر بالممل، ولم يكن يسمح لنفسه في أي وقت بالراحة والمرح المقبول. وعندما دخل الأربعينات من عمره بدأ شعره يتساقط والأمراض تنهال عليه ولم يستطع أكل وشرب اللذيذ من الأكل والشرب سوى شوربة وصفها له الأطباء، يقال لو أنها أعطيت للمتسولين في نيويورك لقذفوا بها جانبا. ويقال انه قرر أن يغير نفسه، وبدأ في عمر متأخر باستشعار الجوانب الأخرى من جمال الحياة، بعيدا عن السعي وراء السلطة والمال والشهرة. ولهذا فانه سرعان ما تعافى وعاش إلى ما فوق الثمانين، ولكن بشخصية أخرى: شخصية غير مملة.

قد يستطيع المرء الحديث عن ملل الرئاسة والرؤساء في بلدان مثل بريطانيا وأميركا، ولكنه يتحرج كثيرا عندما يتعلق الأمر برؤساء بلداننا. فلو قال المرء أن الرئيس "ممل" فانه سوف يتهم بأنه "إرهابي يحاول قلب نظام الحكم". ولهذه فلن أقول أنها مملة، فهذا ليس من شأني ويلزم أن لا أتدخل في السياسة على أمل أن لا تتدخل السياسة في حياتي ولا يحاول المساك بزمام السياسة إزالة الملل المطبق عليه من خلال اتهام شعبه بالشر والإرهاب كما كان ريغان يتهم الاتحاد السوفياتي "بامبراطورية الشر".

العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً