العدد 3732 - السبت 24 نوفمبر 2012م الموافق 10 محرم 1434هـ

كربلاء والربيع العربي الإنساني الأول الجامع

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

تختلط الأمور على كثيرين منَّا. تتداخل الصور والمشاهد والمواقف والأشخاص.

آلة الإعلام، البدائي منها والحديث، كل يوظف إمكاناته وطاقاته وكوادره وأمواله في سبيل الانحراف بحقيقة كل ذلك. الذين زيّفوا التاريخ واصطنعوه كانوا أفراداً مسيّرين بشكل أو آخر. المال هو من سيّرهم. القمع في كثير من الأحيان، وفي أحيان أخرى، صفاقة وخسّة الإنسان وهوانه على الله وعلى نفسه.

ذلك صحيح؛ لكن المال هو الوقود لتلك الآلة. آلة إعلام (وقتها) يريد التاريخ بحسب المواصفات وبحسب أمزجة الذين يمتلكون ذلك المال. المال ضالع في كل ذلك الخزي وإن أتى بواجهات ومسمّيات وعناوين ومبررات. في النهاية: فتّش عن المال، وأحياناً فتّش عن الضِعة!

كل حركات التحرّر من الضيْم لم تضع في حسابها حركات وأجهزة وأنظمة التشويه التي تشتغل بالتزامن مع اشتغال تلك الحركات التحررية. ذلك في حسبانها، وتمهّد نفسها إلى ما هو أبعد من ذلك طالما أن الذين يقفون وراء مَكَنة التشويه متحررون من كل ضمير والتزام وما يلحقهما من قائمة طويلة وعريضة.

في خضمّ الربيع العربي الذي نشهد إيقاعاته المبهرة والمصمّم على بلوغ مراميه؛ على رغم الكلف التي يشهد ويواجه، تصرّ أطراف؛ أو تتغافل؛ وأحياناً تسهم في تشويه الحراك الغابر بمحاولة طمسه. لا نحتاج إلى أن نقول: إن أول حركة في التاريخ العربي والإسلامي دشنت ما يُعرف بالربيع اليوم هي النهضة التصحيحية للإمام الحسين، على رسولنا وعلى سبطه أزكى وأتمّ الصلوات والتسليم؛ بخروجه وسط تخاذل وانصياع بعد استشهاده في كربلاء مع رهط من أهله وأصحابه؛ بحيث وصل بأجلاف ومرتزقة طاغية عصره أن يأخذوا البيعة من أهل المدينة باعتبارهم عبيداً وإماء له! بعد استباحتها لأيام ثلاثة.

عن ذلك، قال ابن حجر العسقلاني في «فتح الباري» الجزء الثامن، صفحة 651: «وقعة الحَرّة التي أجمع المؤرخون على وقوعها حيث أكدوا مقتل ثمانين من أصحاب النبي ولم يبق بدريّ بعد ذلك، وكان سببها أن أهل المدينة خلعوا بيعة يزيد بن معاوية لمّا بلغهم ما يتعمده من الفساد فأمَّر الأنصار عليهم عبدالله بن حنظلة بن أبي عامر وأمَّر المهاجرون عليهم عبدالله بن مطيع العدوي، وأرسل إليهم يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة المرّي في جيش كثير فهزمهم واستباحوا المدينة وقتلوا ابن حنظلة وقتل من الأنصار كثير جداً».

وقال «شيخ الإسلام» ابن تيمية في الفتاوى (3/412): «وجرت في إمارته (أي يزيد) أمور عظيمة منها أن أهل المدينة النبوية نقضوا بيعته وأخرجوا نوابه وأهله، فبعث إليهم جيشاً، وأمره إذا لم يطيعوه بعد ثلاث أن يدخلها بالسيف ويبيحها ثلاثاً، فصار عسكره في المدينة النبوية ثلاثاً يقتلون وينهبون، ويفتضّون الفروج المحرّمة. ثم أرسل جيشاً إلى مكة، وتوفي يزيد وهم محاصرون مكة، وهذا من العدوان والظلم الذي فُعِل بأمره».

سيرته كانت في الذروة من الشذوذ بإقرار وتعيين كبار فقهاء الأمة من الفريقين، وبدأ بما لم يبدأ به أحد في حالات الشذوذ تلك. ويراد له أن يكون ولي أمر مطاعاً يُصبر على فسوقه وانحرافه وتجاوزاته التي لا يمكن أن تقرّها حتى الشرائع الوضعية عدا شرائع السماء.

وسط كل ذلك كانت النهضة وكان الموقف الذي لا يعرف المواربة والتسويف وتعدد التفسير والنظر. مثل تلك النهضة ومثل ذلك الخروج مهّد بعد رحيل شهيد كربلاء إلى حركات انتفاض وتحرر واحتجاج لم يستثنَّ منها أي من أصقاع الإمبراطورية الإسلامية وقتها، باستثناء مركز العاصمة (دمشق)، الذي كان بمنأى عن ذلك الحراك، وإن لم يخلُ من صوت احتجاج هنا وإعلان رفض للبيعة هناك.

حركات الانتفاض والتحرر تلك تظل في مفهومنا المعاصر ربيعاً بعد الدم الذي سفك في كربلاء والفظاعات والتمثيل بالجثث الذي تذكره جل مصادر التاريخ المعتمدة.

كانت حركة ونهضة وثورة الإمام الحسين (ع) أول حراك في خضم القمع والانحراف بالخلافة الإسلامية باعتبارها شورى بين المسلمين وتحولها إلى ملْك عضُود، أول ربيع عرفه ذلك الزمن المتأخر بهيمنة أكثر من خريف عليه. كان (الحراك) ربيعاً عربياً إسلامياً إنسانياً كونياً بكل ما تحمله الكلمة من معنى. طبيعة وبساطة ووضوح وإعلان الحراك أولاً بأول يكشف عن أخلاقية عالية. أخلاقية هي من صميم بيت النبوة ومعدن الرسالة.

كان ذلك الحراك وتلك النهضة والثورة ربيعاً في قحط سياسات كانت الرذيلة والأحقاد ناموسها والنهج الذي عليه تسير وبه تهتدي.

كان أول ربيع عربي إسلامي إنساني كوني يمتد أثره إلى اليوم في كل موقف شريف، وكل جرأة على الصلف وفي كل شجاعة أمام غابات ووحوش من آلات القهر والكبت ومحاولة إدخال البشر ضمن الملكية الخاصة.

وهو سليل النبوة وسيد النبلاء لم يك بحاجة إلى عرَض الدنيا كي يقول قائل، وما أكثرهم: إنه الطمع في الفنَاء. مثل ذلك الصنيع للدنيا وأهلها لا يمكن أن يكون طمعاً في الفنَاء، وهو الذي لم يزل إلى اليوم، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، عنوان ومضمون الشرف والكرامة والعزة.

أختم بكلام لعلّامتين في اللغة، وهما من أهل السنّة والجماعة: العلامة الشيخ عبدالله العلايلي (لبنان)، والبروفيسور عبدالله الطيب (السودان)، فيما يمتاز الأول عن الثاني أنه محَض ومحّص التاريخ وفلسفته تسلحاً بعلوم شتى ظل المبرز فيها بإجادته للغتين عالميتين (الإنجليزية والفرنسية) إضافة إلى عبقريته الفذة في لغته الأم وما يتصل بها (العربية).

في كتابه «مشاهد وقصص من أيام النبوّة» يكتب العلايلي في خاتمة كتابه: «رعياً لذكراك أبا عبدالله، فقد أحسستَ بروح الأخلاق في روح الوجود... فأردتَ الحياة دنيا من الأخلاق والفضيلة والحب... وأرادها الآخرون دنيا من الشهوات والرذيلة والأحقاد... أردتها كوناً من لذة الروح، ولو في شعور الأعصاب بالألم... وأرادوها كوناً من لذة الأعصاب، ولو في شعور الروح بالألم... فاستحالتِ الآلام الكبرى، في حسّ الناس، لذة كبرى في حسك».

جسدٌ يحمل تلك الروح بين جنباته لا يمكن أن يكون مُسوّقاً لما يحبط الناس، ووكيلاً لخريفهم المقيم. الحسين عاهل كل ربيع يمتدّ في حياة الإنسان وتفاصيل تلك الحياة. يكفي أن دويَّ تلك الروح ودويَّ ذلك الدم لم تنل منه الأعوام والقرون، وظل مثَلاً وشاهداً ومُلْهماً لكل حركة تحرر تبتغي رفعة الإنسان وتسمو بالحياة. ظل نهْجاً لكل من يستلّ ربيعه من جهنّم هذا الخريف الذي يُراد له أن يكون مقيماً.

سلامٌ عليك في دنيا خلودك، والنعي الأبدي لمن يروْن في الخلود محْض وهم.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3732 - السبت 24 نوفمبر 2012م الموافق 10 محرم 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً