العدد 3747 - الأحد 09 ديسمبر 2012م الموافق 25 محرم 1434هـ

لا تفعِّلْ حواسكَ كي لا تتورطَ في البدْعة

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

تصرخ من ألم أو خلل أو تجاوز فتُصنّف على أنك أحد أمراء الفتن والخروج. تصمت أحياناً فيُرى في صمتك تدبير أمر بليل. تؤمن بقانون النسبية في أوطان لا نسبية فيها لأي شيء إلا ما تريده هي وتصْطفيه، فيُلوَّح لك بسيرة الولاء خارج الحدود. السيرة يكتبها موظفون «نسبيون» بالمناسبة! نسبيون بحسب ارتفاع ونزول مؤشر ما سيقبضون ويتسلّمون!

تكتب لتنير من وما حولك فتُصنّف على أنك مسرفٌ حدّ السَفَه. هل ثمة سفاهة أكبر مما نحن فيه ويحاصر أدنى تفاصيلنا؛ عدا العميق والكبير منها؟ تشمُّ رائحة فساد تتجاوز تلك التي في أمكنة الخلاء، فتُتهم بتعطّل حواسك أو توجيهها من قِبل أطراف خارجية حاقدة ومترصّدة للوطن و «شرفائه»!

تفتح عينك على أحوال لا تليق بقطيع يعاني الجَرَب في وحدة قاتلة، وفي مكان هو أصل العزلة ويُراد منك أن تركّز بصرك على ما سيقوم من أحوال ضمن مشاريع تأخذ أكثر من خطة تتجاوز الخمسية والعشرية لتصل إلى الألفية، نكون قد صرنا في ذمّة التاريخ والتراب والقبر وما يحدث فيه!

تفتح أذنك تفعيلاً للحواس كما هو مُفترض لدورها ووجودها أساساً، من دون أن تلجأ إلى التجسّس؛ إذ ليست مَهمّتك. ثمة من هو ساهرٌ ليله ونهاره للقيام بتلك المَهمّة «المقدّسة»! وقبل أن يرتدّ طرْف إحدى حواسّك، تكون التهمة قد كُيّفتْ ضدك: عميلٌ، مأجورٌ، ابن العلقمي، «قَرُّوصْ»، مندسٌّ، مدفوعُ الأجر، وكأنك بطاقة «سمْسم»! كما هو الحال لدى بعضهم وما أكثرهم في هذه المرحلة. كائنات لا تتحرّك ولا تتكلم ولا تسمع ولا ترى ولا تشمُّ ولا تَلمس إلا بعد شحْنها. وما أدراك ما شحْنها!

يتحرّك القاتل بكل حرية وكأنّ أوطان الدنيا كلها أوطانه وتُؤدَى له التحية العسكرية بدءاً من منافذ الحدود، مروراً بمؤسسات «القانون» وليس انتهاء بالجوامع! تُحملق في المشْهد وقد فرّت روحك من موضعها وكأنك ترقص من الذبح، وثمة من يترصّد انفعالاتك وحالاتك تلك. بكل بساطة: أنت تُبيّتُ لانتقام سيُدخل هذا الكوكب في فتنة.

تُحَاكمُ الحواس والنوايا والأحلام والكوابيس والفراغ واليأس والأمل والضعف والقوَّة والإحباط والتفاؤل والشموخ والانهيار والوجود والعدم أيضاً. ما الذي تبقّى ليدخل في خريطة المحاكمة تلك؟ أن يُحاكم خروجنا من أرحام أمهاتنا؟ أن نكون بـ «خمس أصابع في اليدين»؟ أن نكون بعينين وأذنين وقدمين ويدين وبنكرياس وكبد وكلى ومصران غليظ؟ أن نمشي إلى الأمام ونأكل من فمنا؟

عليك أن تأخذ حصّتك من الطَعْم واللون والرائحة عبر بطاقة تموين تكفلها لك جهات رعاية إهانتك واحتضارك وتوهّم موتك. أي مصدر تستقيه من الثلاثي ذاك، تكون قد أعدَدْت العدّة لشرّ مستطير، ونواياك ضمن شبكة الرصْد والاحتواء والعمل إما على توجهيها إلى الصراط المستقيم «الرسمي»؛ أو إعادة تأهيلك في أحد فنادق الخمس نجوم؛ حيث ترى النجوم في «عزّ الظهر»!

ودُنوُّك من التاريخ أيضاً فيه نيّة غير نسبية. دُنوّك منه نبش فيما لا حق لك فيه. التاريخ مقدّسٌ ضمن حدَقة وعين ورأس ومجموعة أو ثلة. هو على النقيض من ذلك لدى كل أولئك. اصطفافك مع الضفة الأخرى يكشف دناءتك وسفالتك ونواياك مدفوعة الأجر هذه المرة أيضاً!

يُراد لك الآتي: أن ترهن حواسَّك لدى جهات هي مسئولة عنك من المهد إلى اللحد وبشكل عكسي. ألاّ تسير خارج الخطوط المرسومة لك ولو لم ترَ الخطوط. أن تكون على استعداد تام للخضوع لكشف ذمتك في الكرامة ومنسوبها؛ لأن ذلك قد تكون له تبعات على الوطن وعلى دول الجوار؛ وحتى سكّان الكواكب الأخرى. أن تكون لصْق الحائط ولو كنت في بريّة موحشة. أن تتحصّل على ترخيص يقرّر حصّتك في التواجد في غرفة نومك ودورة المياه وعدد القُبَل لأطفالك ومن تحب. أن تقدّم كشفاً ورسوماً بيانية توضح حركة عاطفتك مع وضد.

في هذا الزمن الأغبر وبالعامية «المْقَحْلِفْ» (في واقع الأمر طبيعة السياسات هي التي جعلته أغبر و «مْقَحْلِفْ»)، يُراد لك أن تعيد النظر في سحنتك وطريقة مشيك وحساسيتك بكل تفاصيلها. يُراد لك أن تكون مواطناً مدجّناً، وبحاسة خروف يتوقع النحر في أي لحظة، وبحاسة طير يتوقع الأسر في أي لحظة، وبحاسة شيء يمكن صوغه وإعادة تشكيله في أي لحظة، ويُراد لك في نهاية كل تلك القائمة الطويلة العريضة من الشروط «القاراقوشية» ألاّ تكون بحواس أساساً!

المعادلة التي يوهمونك أنها بسيطة وسهلة تتركّز من دون لف أو دوران أو أي شكل من الأشكال الهندسية: مستطيلها ومربّعها ومثلّثها ودائريّها ومستقيمها ومعوجّها، في أن تكون مُسيّراً ومرصوداً ومُوجّهاً بأكثر من جهاز تحكّم عن بُعد، لحظتها أنت نموذج المواطن الكوني الشريف المعدّل وراثياً وأخلاقياً وبحسب الطلب، ونسخ منك ستغزو الأسواق عمّا قريب إذا تم السير في الخطط الاقتصادية والسياسية والتمييزية والتمييعية بحسب ما هو مرسوم لها!

ألاَّ تؤمن إلا بقضاء وقَدَر هما «صناعتان أرضيتان» تُقرَّران لك ولك حصتك منهما. ألاَّ تُكثِر من: أعتقد، وأرى، ورأيي. تلك من المفاسد والمداخل إلى الفتن والبدْعة والضلالة، و «كل بدْعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» رعاك الله.

في النهاية وزبدة المقال: لا تفعّلْ حواسك ولا تفعّلْ من أنت وكيف جئت وما هو دورك وموقفك وشعورك. فقط أُذكّر: كل ذلك في الصميم من البدْعة والضلالة!

صوْتٌ خارج الكادر: «وإذا لم يعجبك الأمر، فدونك البحر الميت يمكنك الاغتراف منه»!

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3747 - الأحد 09 ديسمبر 2012م الموافق 25 محرم 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 3:40 ص

      جميل جدا هذا المقال الرائع

      استاذ حعفر الجمري المحترم لك الحب والتقدير على هذا المقال الجميل الذي
      يخاطب الروح المجروحه من هول الالم والجرح العميق من هذة الاحداث وهي
      قدر الانسان في هذا الزمن الاغبر حقا راجيا من المولي العلي القدير ان يشف
      الجراحات هذا الشعب الكريم يحقق اماله وتتطلعاته

اقرأ ايضاً