العدد 3757 - الأربعاء 19 ديسمبر 2012م الموافق 05 صفر 1434هـ

متْن الخيْبة وهامشها: أن تموت وأنت حيّ

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

ما الخيبة؟ أسأل. حصْرها في الشخصي سيذوي، وستتراكم بعدها خيبات تربّي أيَّ واحد منا. تربِّيه بمعنى تحصِّنه منها. ما بعد الشخصي أمرٌ آخر. الحصانة يستمدّها المرْء من حصانة جماعية. لا موقف هنا يمكن أن يتبلور بعيداً عن ذلك.

ما الخيبة؟ ألاّ تحيا كما يجب. ألاّ تنال حظك من الحيّز الذي تتحرّك فيه. ليس بالضرورة حيّزاً في المكان. حيّزك في العاطفة وفي تحقّق الأهداف والأحلام جزء من حضور أو نفي لتلك الخيبة.

ما الخيبة؟ ألاّ ترى من وما تحب. في الغياب هم. في خذلانك المُعَدّ. تتلمَّس طرق الوصول إليهم. كل ما يؤدّي إليهم جدرٌ وأسوارٌ ومغاليق.

الخيبة، أن تسهر على علاقات في محيطك الذي آمنت ببساطة وبراءة وصدق الناس فيه. أن تسهر على أحلام امتصّتْ دمك وزهرة العمر، لتفاجأ باليباب من كل ذلك. تفاجأ بفيافٍ هي ما بعد العدم إزاء العمى الذي سبّبتْه تلك الخيبة.

الخيبة، ألاَّ ترى مقاييس كنت متوهماً حضورها، ليتضح لك من دون عناء أنها فوضى تنظّم الذين جاءوا ليسيطروا ويعمِّموا العبث بين الناس. خيبة أن تجد الفوضى والعبث يسودان ويتحكّمان في مصائر الناس وتقرّران حصة الناس في الهامش من الحياة.

الخيبة، أن يوهمك أحدهم بالحياة فيما هو وكيل الموت الحصري. أن يوهمك أحدهم بالقلب فيما هو بدم بارد يُشْهر الحديد الذي يليق به. أن تتوهّم أنت أيضاً أنك قادر على إقناع العدم باللعب واللهو معك ومرافقته بعد مارثونات العناء.

الخيبة، أن تكون في محيط مسوَّر ومُشرْعن باغتيال المتحرّك والساكن فيك أيضاً. ألاّ يكون لك الحق في أن تحلم وتتخيّل وتتمنى ومقاربة ما تريد. خيبة أن تكون حتى أحلامك متهمة وتحت الرصْد والتتبّع.

الخيبة أن تكون لصْق الأرض وأصلها وقيمتها وتاريخها وذاكرتها ليملي عليك عابر سبيل معنى أن تكون وطنياً وشريفاً وعلى مبْعدة من الخيانة، حين تنحني وتذعن وتهادن وتنبطح إذا احتفظت بشيء من لياقة الانبطاح لكي تثبت براءتك من كل ذلك الخَرَف الذي تغذّيه مكنة إعلام لا تشكُّ لحظة أنه (الإعلام) يمارس دعارة من نوع آخر.

من صور الخيبة أن تترك لذاكرتك حرية التصرف في أن تنسى. تنسى العصيَّ على النسيان، وارتكابه لا يقل عن وجبة ذبح لك في رضا وامتنان منك.

الذاكرة التي تتركها في دائرة إلهاء من استهدفك وترصّدك وسعى إلى تذويبك في حامض أسيدِ سياساتِ محْوه؛ كي يكون المهيمن على الخراب في وهْم إصلاح ينشدُ، واستثناء في الحضور يتمنى.

الخيبة أن تسلّم حضورك لمن غيّبك واستلّ روحك وما يدلّ عليك. أن تصل إلى درجة الاقتناع بأنك عالة على العالم برضاك بالتهميش وتوقيعك على صكّ نفيك وعدمك.

الخيبة ألاَّ شيء يدل عليك. أن تشعر بأنك لم تكن هنا. لم تكن أحد رعايا ومنتسبي هذا الكوكب. أن تحيا وتتحرّك وتتنفس النقيض مما يدل عليك.

الخيبة أن تنسجم مع جاهلية وظلامية تُفرض عليك من دون أن تحرّك ساكناً لاستفزاز أو مشاكسة مواضع ارتطامك. لا قلب لك بعد كل ذلك كي ترى به ومن خلاله. كأنَّ صاحب الخيبة من دون قلب. كأن قلبه قُدَّ من استلاب، ولا يهم بعد ذلك قُدّ من دُبر أو من قُبُل.

الخيبة، أن تصل إلى درجة الإيمان بوجودك صدفة، وبدورك الصدفة، وتنفسك الصدفة، وحراكك الغابر المكتظ بالصُدَف. أنت ابن الصدفة في نظر الخيبة ولا شيء خلاف ذلك يدفع باتجاه أنك صدْر المكان، وسعة الزمان.

الخيبة، أن تتحالف مع الهوان وتكون صديقه لإغواء الذين لم يستسلموا لهذا العبث الجائر والسخيف.

الخيبة، أن تمنح الفرصة للذئاب كي تتناسل من حولك. أن تكون مشروع وموضوع غدْر وإقصاء. أن يشعّ ظلامُ سواك. وأن ينطفئ ما كان يدل عليك من ضوء.

الخيبة، أن يكون وحْيك الوهم. أن تتوهَّم فضاءك في الأسْر المقيم. أن تعتاد الكلام الذي تُلقّن ويُمرّر إليك تحت أكثر من يافطة وعنوان وتبرير، ولا يحتاج إلى تبرير أساساً!

الخيبة، أن تكون جسداً لا طُهْر فيه في انسلاخ الروح التي رهنتَ في أكثر من مزايدة وسوق بحسب الطلب.

الخيبة، أن تصاب بقدرتك على الانحياز إلى الهبوط والانحدار، وتجد في النقيض تهوُّراً وأضغاث أحلام وخارج سَعَة البشر في أن تتحدّى ما هو قائم وصائر.

ولكلٍ متْن وهامش. تظلُّ أصل الهامش الرديء. نص الخيبة أن تعتاد انتظار انتصارك على يديْ من صادرك نصاً، وقذف بك في جهنم الهامش.

الخيبة، أن تموت وأنت حيّ. تشهد نعيك والضجر الذي يحيط بذلك النعي والتشييع.

الخيبة أن تتفرّج وتندب حظك على الذين يقطعون المراحل بسرعات ضوئية؛ أحياناً لأنك الخيبة نفسها، تنتظر من يأخذ بك ويعبر بك الشارع المؤدّي إلى المستقبل؛ وأحياناً لأنك ترسف في أغلال سياسات لا تريد لك أن تكون ضمن المتحرّك والمتحوّل. تريد لك أن تكون ضمن الثابت والمنشدّ إلى واقعه. واقعه الذي يزيده «شيئيّة» أكثر من البشرية أو ما يدل على الإنسانية.

الخيْبة، أن تصحو وأنت في الطرف المعزول والنائي من العالم. على الأقل عالمك الذي تتحرّك فيه وتنتسب إليه. في الجحيم من الإقصاء والانسلاخ عن التجمهر الفاعل، والضجيج الذي يصنع رفاهيته المقبلة. يكفيك خيبة أنك أصبحت أحد رعاياها ومقيماً في أسوارها.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3757 - الأربعاء 19 ديسمبر 2012م الموافق 05 صفر 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً