العدد 3782 - الأحد 13 يناير 2013م الموافق 01 ربيع الاول 1434هـ

الربيع العربي وإشكالات التطور... «الإسلام المعتدل» الأوفر حظّاً

جماهير محتشدة في ميدان التحرير وسط القاهرة (ارشيفية)
جماهير محتشدة في ميدان التحرير وسط القاهرة (ارشيفية)

عقب خروجها من الحقبة الاستعمارية شهدت المنطقة العربية أحداثاً صاخبة، وعرفت شعوبها فترة من النهوض. لكن هذه المرحلة سرعان ما انحسرت، لتحل محلها مرحلة طويلة من الركود. ولكن فجأة وبدون أية مقدمات استفاقت الشعوب العربية من سباتها، واشتعلت المنطقة العربية بأسرها. الأمر الذي دفع إلى السطح تساؤلاً مشروعاً: هل يمكن أن يكون هذا التزامن وليد صدفة؟

ثمة من يعتقد أن الولايات المتحدة، هي التي خططت لتغيير الأنظمة العربية. لكن مثل هذه الآراء سخيفة وبعيدة كل البعد عن المنطق، لأنه من المستحيل أن يخطر ببال الولايات المتحدة أن تخطط للإطاحة بحسني مبارك الذي لم ولن يستطيع أي رئيس يأتي بعده أن يخدمها ويدافع عن مصالحها في المنطقة كما فعل هو. لهذا، فإن الأمر لا يعدو كونه تطبيقاً عملياً لنظرية الدومينو.

لقد تكدست في المنطقة كميات كبيرة من المحروقات، ولم يكن الأمر يحتاج إلا إلى عود ثقاب، ليندلع حريق هائل. ولقد اندلع ذلك الحريق، بالمعنى الحرفي للكلمة، في جسد ذلك الشاب التونسي المسكين محمد البوعزيزي.

لقد مهد لهذا الحريق الهائل عدد من العوامل الموضوعيةمنها:

أن أعمار نحو 60 في المئة من سكان المنطقة العربية تقل عن 25 سنة، وتعاني نسبة كبيرة من هؤلاء من البطالة الدائمة.

ومنها أيضاً، الطفرة التقنية الهائلة التي طرأت على وسائل الاتصالات، وما ترتب على ذلك من تغير نوعي في الواقع الإعلامي. فلقد كان المواطنون فيما مضى لا يعرفون إلا ما تريد لهم السلطات أن يعرفوا. أما الآن، فأصبح باستطاعة كل واحد أن يصل إلى المعلومة التي يريدها وأن يوصل هذه المعلومة إلى الآخرين.

وعلى الرغم من ذلك إلا أن العوامل الموضوعية لا تعدو كونها مقدمة لما حصل ولا تكفي لتفسير أسباب اندلاع الحريق.

فما أسباب تكدس هذا الكم الهائل من المشاعر الاحتجاجية وهذه الرغبة الشديدة في التحرك والتصرف لدى الطلاب والمعلمين والمحامين والأطباء والموظفين، أي أولئك الذين شكلوا المحرك الأساسي للثورة؟

في حالة الثورات العربية، كما في حالات الثورات التي سبقتها، ثمة بعض الأشياء التي لا يمكن تفسيرها لأن من طبيعة الثورة أنها تندلع بصورة فجائية ودون سابق إنذار.

أما الانقلابات، فتحدث عن سابق تخطيط. نعم، لم يكن أحد يتوقع أن يحدث ما حدث في الدول العربية، رغم أن الجميع كانوا يعرفون مدى عفونة الأنظمة الحاكمة. ولو أردنا أن نلخص ما ينطق به لسان حال الشعوب العربية، لاختزلناه في بضع كلمات: مللنا! لم نعد نثق! لم نعد نخاف!

المقارنة بين الثورات «البرتقالية» وثورات «الربيع العربي» لا تستوي إلا من حيث إن الشعوب، في بلدان الثورات جميعها، ضاقت ذرعاً بحكامها. وكذلك من حيث سقوط ضحايا نتيجة العنف الذي رافق الاحتجاجات.

فلو أننا أخذنا ثورتي أوكرانيا وجورجيا، كمثال على الثورات البرتقالية من جهة، والثورة المصرية، كمثال على الثورات العربية من الجهة الأخرى، لاكتشفنا الفارق الكبير بين الحالتين. ففي أوكرانيا وفي جورجيا كذلك تعرض الحكم الفردي لأزمة طويلة بسبب انفصامه عن الواقع، وما ترتب على ذلك من عجز عن مجاراة نبض الشارع. ولهذا تعرض لنقد لاذع وممنهج، إلى أن استنزفت المواجهة الطويلة كل عوامل قوته، فسقط.

أما في حال الثورة المصرية، فانتفضت الجماهير فجأة ونزلت إلى الشوارع، وانتهى كل شيء خلال بضعة أيام.

أما الاختلاف الجوهري الثاني، فيكمن في أن الحملتين ضد النظامين في أوكرانيا وجورجيا اتخذتا شكل معارضة حسنة التنظيم، قادتهما شخصيات معروفة. أما في مصر، فلم يحدث أي شيء من هذا القبيل. فقد انتفضت الجماهير العريضة المسحوقة التي لم تطالب لا بالحرية ولا بالديمقراطية، بل بالعدالة والعيش الكريم. وبعد ذلك جاء دور «الإخوان المسلمين» الذين تلقفوا هذه الشعارات ووعدوا بتوفيرها، ولهذا سار الشعب وراءهم.

لقد عمل الإسلاميون الأصوليون، طوال عقود، على ترويج فكرة مفادها أن كل ما حل بالعالم الإسلامي من مصائب سببه ابتعاد الحكام الأشرار عن الإسلام الحقيقي النقي الذي أوصله لهم النبي محمد بتكليف من الله. ودأبوا كذلك على إفهام العامة أن الحكام الأشرار عاثوا في البلاد فسادا وحكموا الشعب بالطغيان والتعسف.

ولهذا، فإن أولئك الطغاة إما أنهم باعوا البلاد للغرب الفاسد الكافر، أو أنهم استنسخوا عن الأجانب أنظمة اشتراكية بعيدة كل البعد عن روح الإسلام وتعاليمه. وأفهم الإسلاميون الجماهير أن كلا الطريقين خبيث ومدمر، وأن لا مخرج للشعب مما هو فيه إلا بالعودة إلى الإسلام الحقيقي.

من المعروف أن شعار الإخوان المسلمين في مصر «الإسلام هو الحل». ومعروف كذلك أن التنظيمات الأصولية طرحت منذ زمن بعيد شعار «القرآن دستورنا والله قائدنا». وترتكز إيديولوجية هذه التنظيمات على أساس راسخ من الرفض القاطع لمبدأ علمنة الدولة.

لقد تمكن ممثلو الإسلام المتطرف في مصر وفي غيرها من الدول العربية من اكتساب شعبية كبيرة بفضل المساعدات الملموسة التي قدموها للطبقة الفقيرة، حيث شيدوا مستشفيات ومدارس وأسسوا صناديق للتكافل الاجتماعي.

وهذا ما جعل الجماهير تنظر إلى الإسلاميين باعتبارهم معبرين حقيقيين عن تطلعاتها، ومدافعين عن مصالحها. بعكس ممثلي النظام الحاكم من موظفين فاسدين ومرتشين ومتبلدي المشاعر والأحاسيس. ولهذا كان من الطبيعي أن يفوز الإسلاميون في أول انتخابات نزيهة جرت في مصر وتونس والمغرب والكويت، وقبل ذلك في الانتخابات التي جرت العام 2006 في المناطق الخاضعة للسلطة الوطنية الفلسطينية.

لم يكن باستطاعة أية إيديولوجية أخرى أن تنافس الفكر الإسلامي للفوز بتعاطف الجماهير العريضة. فقد تشوه مفهوم الديمقراطية في أذهان الجماهير. وأصبح بالنسبة لها مجرد تجربة فاشلة أجرتها النخبة التي كانت سائدة في الحقبة التي أعقبت مرحلة الاستقلال، لاستنساخ النظام السياسي الغربي. علما بأن الغرب يرتبط في أذهان الجماهير بالاستعمار والتدخل السافر في الشؤون الداخلية للشعوب، كما حصل في أفغانستان والعراق وليبيا.

وتشوه كذلك في أذهان الجماهير مفهوم الاشتراكية بسبب التجربة الفاشلة للأنظمة اليسارية التي كانت تتلقى الدعم من موسكو والتي لم تتمكن من حل المشاكل التي يعاني منها المجتمع ولم تتمكن من القضاء على الفقر والفساد الإداري واستغلال السلطة والتعسف.

كما تشوه في أذهان الجماهير مفهوم العروبة أو القومية العربية الذي روجت له «الناصرية» و»البعث»، بعد أن فشلت الأنظمة القومية في تحقيق أية وحدة بين الدول العربية وفي التصدي لإسرائيل وتحقيق أي نصر عليها.

إن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هذه الأيام هو: أي نوع من الإسلام سيسود في المنطقة، هل هو الإسلام السمح المعتدل الذي يحكم الآن في تركيا؟ أم سيتمكن الظلاميون من الاستيلاء على السلطة ليقيموا نظاماً شبيهاً بالنظام الذي أقامته حركة «طالبان» في أفغانستان؟

إن الجواب عن هذا السؤال مرهون إلى حد بعيد بقدرة الإسلاميين الذين لا يملكون أية خبرة في إدارة الدولة على حل المشاكل الاقتصادية لبلادهم وتحسين المستوى المعيشي للمواطنين. ذلك أن «الربيع العربي» أثار النشوة لدى الجماهير، وبعث في نفوسها الأمل بحياة أفضل. فالمواطنون ببساطتهم وسذاجتهم يعتقدون أن السعادة والرفاه سيكونان بانتظارهم فور الإطاحة بحاكمهم المستبد. ولهذا، فإن سقف مطالبهم من الحكومة مرتفع جدا. ومن المؤكد أن الجماهير سوف تصاب بخيبة أمل كبيرة، لأن الإسلام المتطرف لا يستطيع أن يستقطب استثمارات أجنبية، وبالتالي لا يستطيع أن يجري عملية تحديث للاقتصاد، وبالتالي لا يستطيع أن يؤمن تطوراً طبيعياً للمجتمعات التي يحكمها.

أما الإسلام المعتدل، فيمتلك في هذا المجال حظاً أوفر بكثير من حظ الإسلام المتطرف. ولكي يستطيع أن يصعد إلى السلطة ويستمر فيها عليه أن يجمع بين الفكر القومي العربي مع الاحتفاظ بالخصوصية القطرية وألا يبقى ممثلاً للفئات المعدمة والمهمشة من المواطنين، بل عليه أن يأخذ بعين الاعتبار مصالح الطبقة الوسطى التي تنمو وتتطور بسرعة والتي تتألف في غالبيتها من الفئات المثقفة.

العدد 3782 - الأحد 13 يناير 2013م الموافق 01 ربيع الاول 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً