العدد 3792 - الأربعاء 23 يناير 2013م الموافق 11 ربيع الاول 1434هـ

التأريخ ليس سرْداً... إنه رؤية الضمير

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

قبل قرون، وربما عشرات العقود، كانت كتابة التاريخ لا تختلف كثيراً عن تعليق على مباراة في كرة القدم يتم تخيّلها من قبل حالم أو طامع في غرفته. لا فرق أكَان في غرفة بيته؛ أو غرفة فندقية؛ أو في ضيافة قصر، ومن غرفته يكتب ما يُملى عليه أو يتخيّله أو يرجوه أو يرجو من ارتهن له؛ بحسب أهوائه أحياناً؛ وبحسب أهواء من هو في ضيافته ووليّ نعمته الأرضيّ الذي ابتغى واختار.

في هذا العصر انتهت اللعبة. انتهت اللعبة بكشف الحقائق التي يُعمل على تزويرها وتزييفها واصطناعها واختلاقها. انتهت كتابة التاريخ لمن يدفع، وكتابة التاريخ المضاد لمن لا يدفع ولا يريد أن يدفع. انتهت مرحلة توريط المستقبل بنصوص من الكذب والمؤامرات وباقات لا حصر لها من الغرائز وملحقاتها وتبعاتها والنتائج المؤدّية إليها. هذا الزمن لم يعد أجيراً أو مُحتسباً أو حاجباً عند كائن من كان. لم يعد ضمن طابور طويل ممن يتقاضون ثمن سكوتهم، وثمن شهاداتهم الزور، وثمن استعدادهم للشهادة برؤية هلالين في وقت واحد ومكان واحد: وقت تحرّي هلال شهر رمضان، وشهادة تمامه.

التاريخ من المفترض أن ترصده أطراف تتحرك في الحيّز الزماني والمكاني على مسافة واحدة. لا يكون تاريخاً لأمة أو مجموعة بشرية حين ترصده جهة مهيمنة ولديها أسباب شراء العيون التي تريدها هي أن ترى، والحوادث والوقائع، مع حرية التحوير والتحريك والتشويه والتجميل والتأليه والكفر بطرف هنا، وطرف هناك، وطرف ثالث هنالك.

التاريخ لم يعد مكنة تفريخ حوادث من العدم، لأبطال من العدم. ولم يعد تلك القدرة المنحطّة على تغييب حياةٍ، وفعل حياةٍ، ورجال من المفترض أنهم إما صنعوا حركة الحياة وضجيجها؛ وإما أنهم على الضدّ من ذلك. لم يعد الذين استمرؤوا الأمر بمقدورهم وضع الحياة ببشرها والتاريخ في زنزانة انفرادية أو تحت إقامة جبرية.

الحاضر هو الآخر لم يعد مُستأجراً بفعل كشف معطيات عصر بيّنَ أن البطش والقوة في حقيقتهما هشاشة. الحاضر اليوم قادر على كتابة تاريخه من جهة، وتحديد خريطة ذهابه إلى المستقبل من جهة أخرى.

هذه المؤسسات والهيئات الكرتونية التي تأتي تحت مسمّيات إعلام بجديدِه وعتيقه، لا يمكن أن تكون صالحة للتواؤم معها، ولا يمكن للزمن نفسه أن يقبل بها ولو ضيفاً متطفلاً على المتغيّرات والتحوّلات التي تصنع العالم اليوم؛ فيما هي متمسّكة بمنافذ وموارد تغذيتها ومنافعها، ولا يُهم بعد ذلك مصادر تلك التغذية والمنافع.

كان العبث والبطش والمزاج يتحكّم في مصائر الزمن وبشر الزمن وأشياء الزمن. كان كل شيء برسْم الهيمنة والاختطاف والتصيير، أنّى شاءت إرادة الذي يملك صُررَ المال التي تقطع الألسن والمعارضات وقتها. صحيح أنه لم ينتهِ عصر شراء الذمم والضمائر بالصُرر نفسها، وفي مواضع وشواهد متحركة ومتجدّدة، وتأتي في كثير من الأحيان تحت مسمّيات خادعة وتكليفات أكثر خداعاً؛ لكن حين يتعلّق الأمر بمجسّات وأدوات قادرة على كشف التلاعب بالمصير البشري عبر شراء الذمم، يمكن لكل ذلك أن يُحدث فارقاً، وفارقاً كبيراً في وضع تجاوز هنا، وانحراف هناك تحت الضوء وتحت المساءلة. يكفي أن الفضيحة وحدها تتجاوز المساءلة بمراحل.

وحين يتعلق الأمر بتدوين ما حدث، لا تدوين ما لم يحدث على أمل أن يكون شافعاً ومستدركاً وبشكل استباقي، وفي هذا الزمن، تصبح المساءلة مضاعفة، والفضيحة تتجاوز سكّان المعمورة.

ما حدث في جزء من قرون وعقود ولّت وأدبرتْ، لا يبعد كثيراً عن التأريخ للمصادفة؛ أو الذين جاءوا من المصادفة ليختطفوا المكان والزمان ويصبحوا هم الواقع والإشارات الدّالة عليه.

عدسات التصوير والتأريخ المتنقلة التي يمكن وضعها في الجيب أصبحت أداة لا يمكن رشوتها. الجموع البشرية التي تنزل إلى الميادين اليوم وهي متسلّحة بإرادتها الاستثنائية ومحصّنة بأدوات ما تحدثه من فارق ورصد ما تحدثه قوى البطش من استعلاء يرتدّ عليها بأضعاف الكُلف، كل ذلك صار خارج السيطرة عليه بصُرر المال أو صُرر الدخول ضمن عضوية الذين سيرعاهم البطش ويجعلهم في كنفه.

الأطفال أيضاً باتوا مؤرخين بكاميرات هواتفهم المحمولة رخيصة الثمن عالية وغالية الفعل الذي تحدثه لحظة قبضهم على مشهد، أو صورة من صور إساءة وانتهاك الحياة تطولهم كما تطول الأجنة.

حتى وقت قريب، كانت معظم الكيانات المصنّعة لتاريخها الذي تريد وتبتغي، تصنع تاريخ تجسّسها على الأفراد الذين قُدّر لهم أن يكونوا تحت هيمنتها و»رعايتها». بات بين يدي المواطن البسيط أدوات تجسّسه المشروعة والمتاحة في السوق وعلى الأرصفة أيضاً. بات قادراً على التجسّس على تلك الكيانات وفي الهواء الطلْق من دون أن يحتاج إلى تجنيد وتوظيف كتائب من العَسَس للقيام بتلك المهمّة. كبْسة زرٍّ في شارع معطّر بالغازات وحتى الرصاص كفيلة بوضع التاريخ في زاوية حرجة، وحرجة جداً.

عصر فيه خيبة ظن للذين اعتقدوا؛ بل توهّموا أنهم قادرون على خلق زمنهم الخاص. خلق تاريخهم بالمواصفات التي يريدون وبالصوغ الذي يريدون، وخلق حاضرهم تحصيناً من أي اختراق أو نفاذ إليه، تهديداً لأسواره؛ عدا تهديد مداخل قلاعه، وخلق المستقبل الذين يطمحون ويصرّون على بلوغه، والإمساك به، وإدخاله ضمن طابور طويل من الرعايا.

التاريخ ليس سرداً. إنه التقاط للحظات رؤية الضمير قبل التقاط لحظات رؤية العين، ونص السمع الشاهد.

كرَّرتُ لأكثر من مرة: التاريخ لا يمزح. ولا يمكن أن يحتفي بالذين يمزحون معه تزويراً وتحريفاً لمساره ووقائعه وسننه. ذلك أمر لا يمكن أيضاً مجرد التفكير فيه وقت فراغ أو انشغال. وكما أن لكل أمر ارتباطاً وسلاسل انتماء، يظل التاريخ وهو في حركته معنياً بالمستقبل الذي سيكون حاضراً يتم العمل عليه ليكون تاريخاً في حركة الدخول إلى مستقبل آخر. تلك المعادلات لا يمكن اللعب بها في هذا الزمن الذي بات كاشفاً ومكشوفاً ومرصوداً ممن كنا نتوهم أنهم غير معنيين بالأمر؛ فيما هم اليوم يصنعون الأمر، ويحدثون الفارق المذهل الذي لا يمكن نكرانه أو المكابرة أمام باهر ورائع صنعه.

هنالك محطات وإشارات تنبيه ومنعطفات ومطبّات على المؤرّخ مدفوع الأجر ألاّ يتجاوزها وأن يكون متقيّداً من جهة، وله حرية أن يوسّع خياله إذا ارتأى ذلك من جهة أخرى. مؤرخو اليوم في الشوارع وفي الأكاديميات التي لها وزن وثقل يتجاوزون تلك المحطات والإشارات والمنعطفات والمطبّات المصطنعة وغير المصطنعة. هم يرصدون حاضراً لضمان أن المستقبل سيعبر بأبنائه وهم في كامل لياقتهم على مستوى الضمير والقيمة والإبداع. لحظتها يمكن لهم أن يفخروا أنهم يكتبون التاريخ الذي صنعوه، لا الذي اصطنعه غيرهم افتراء واختطافاً للأدوار وعرق الذين أدّوا تلك الأدوار.

أعيد: التاريخ لا يمزح فحسب... يؤكّد: انتهت اللعبة.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3792 - الأربعاء 23 يناير 2013م الموافق 11 ربيع الاول 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً