العدد 3799 - الأربعاء 30 يناير 2013م الموافق 18 ربيع الاول 1434هـ

درْس المصادفة التي يُراد لها أن تكون كذلك

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

حين تحضر أو تبرز مفردة «المصادفة»، يذهب الذهن البشري إلى حال استوائه وطبيعته إلى أن الإنسان غائب ولا علاقة له بتراتبية ما حدث.

ذلك تعميق للتسخيف. وحدهم التنابلة الذين يوقنون بأن المصادفة جزء من توازن حركة الحياة وفعلها؛ لأنهم يعتقدون بل يؤمنون أن المصادفة تعمل بأجر مستقطع لديهم، وتقوم بكثير من المهام التي لا تسعفهم تنْبَلتهم على أدائها.

ماذا يعني أن تهيمن المصادفة على أداء كثيرين في العالم اليوم؟ ماذا يعني أن تصبح الحاكمة بأمرها في اختيارات وميول وأمزجة ومواقف الناس؟

وحدهمُ الفاشلون والمرضى والمعقّدون والمأزومون من النجاح على أكثر من مستوى، من يرجع كل فشله ومرضه وعُقده وتأزمه إلى تدخّل المصادفة.

المصادفة التي لا يتم الإيمان بها في الذروة من القوة والبطش، ولا يتم الإيمان بها في الاستواء على أكثر من تل خراب. فقط تحضر المصادفة حين تختلّ الموازين التي لا يؤمنون بها، وحين ترتبك الخطط والاستراتيجيات التي تستهدف محق الإنسان ومحوه وتذويبه.

لا مكان للمصادفة في عالم من المفترض به أن يكون واقعياً. تماماً كما هو الحال في اللامكان للخرافة والأسطورة في عالم يريد أن يتحرك وينجز وينافس ويثبت حضوره بوعي ومنطق ومعادلات ليس بالضرورة أن يعرف تفاصيلها.

كأنّ الإيمان بالمصادفة إيمانٌ بتكريس حالات القفز على حق الإنسان في أن يكون منطقياً وعاقلاً ويأخذ بالسببيّة. السببيّة التي لا تجعله كائناً هلامياً ويتحرك ضمن هلامية في القوانين أيضاً. حينها يكون جزءاً من العبث. عبث مأساته، وعبث المصادفة التي ينتظرها ويُعوّل عليها في كل حركة وسكون منه.

التعويل على المصادفة اليوم وقبل اليوم وغداً، تعويلٌ على السراب في بريّة موحشة. مثل ذلك العويل لن ينقذ صاحبه ولن يورده النبْع. سيورده منابع الوهْم والهلاك.

ثم إن التعويل على حضور المصادفة يعطّل الحياة ويجعلها رهينة ذلك الحضور. ألاّ تأتي المصادفة بذلك التعويل، يعني أن الحياة في دائرة الغياب وفي دائرة المجهول. وكيف لغياب ومجهول أن يصنعا واقعاً ويلوّحا بإنجاز؟

الاعتقاد بوجود المصادفة وباء مقيم/ وتعطيل لإمكانات الإنسان في صنع قَدَره والإمساك بتلابيب ذلك الصُّنْع. ثم إنه من السُّخْف أن يعوّل الإنسان على المصادفة لصنع واقعه والتحكّم فيه. ومن البلادَة أن يكون رهْناً لذلك.

تخيّلْ شعوباً وأفراداً تترك أمر معاشها وحركتها ودورها ومساهمتها في الحراك البشري للمصادفة. كيف سيكون شكل العالم. هل سيكون هنالك عالم أساساً، على الأقل ضمن حيّز تلك المجموعة والأفراد؟ هل ستكون هنالك إرادة أساساً؟ كيف هو التنافس في الخلق والإبداع؟ هل سيكون هنالك ما يدلّ عليهما في حال طلعتْ المصادفة بكل ذلك؟

انتظارك للمصادفة، انتظار للعدم ليقوم بمهامك. أن تنتظر الوهم ليسهر على أحلامك وأمانيك، ويراكم أوهامك أيضاً. أن تنام وتصحو وتنام وتصحو في انتظارها. إذا أتتْ كفتْك شر العناء، وإذا لم تأتِ لن تيأس من انتظارها.

إذا كانت المصادفة تملك كل تلك الطاقة في الوعي «البهيم»، فهي قادرة على إعادة صوغ العالم ببشره وكائناته بأنواعه وأجناسه، بمتحركه وجامده، بعاقله وبهيمه، بضعيفه وقويّه، بظلامه وضوئه.

ذلك ما يتبادر إلى الذهن البشري في حال اخترع منطقاً لتلك الطاقة والقدرة العجيبة التي تملكها المصادفة.

على أرض الواقع، هناك دول تتعامل مع شعوبها وكأنهم جاءوا من المصادفة. ولا علاقة لهم بحقيقة هذه الأرض، وسببية حضورهم.

الأمر الوحيد الذي لا تتمكّن المصادفة من تحقيقه أن يكون أحدهم مفتوناً ومهووساً بالحُفَر ولا يريد لها بديلاً، ليتوهّم أنه وجد نفسه في مكان ضال وحقير: القمّة!

ومثلما تأتي المصادفات بطيئة بحلوها ومرها يُراد للحياة هي الأخرى أن تخضع لذلك البطء وأن يكون الإنسان رهناً لعدم وجودها أصلاً. لا شيء في الدنيا اسمه المصادفات أو المصادفة. كل شيء بقَدَر، وذلك القدَر الذي نجهله وأحياناً نتجاهله هو الذي يدفع التنابلة والضعفاء واليائسين والمتواكلين يعوّلون عليها ويدمنون انتظارها والبناء عليها فينا تبقى من تفاهات حيواتهم.

كل ما ندرك علاته نرجعه في كثير من الأحيان إلى المصادفة. نجاتها من موت محقق نرجعه إلى المصادفة. خروجنا من مأزق نرى من المستحيل مخارجه، نرجعه إلى المصادفة. فشلنا في أبسط الأمور نرجعه إلى المصادفة وأحياناً الحظ الذي لا يقف معنا وعلى نفور منا. نريد للحظ أن يعمل لدينا بنوبات ثلاث! نمارس نوعاً من الإلحاد من حيث نشعر أو لا نشعر بسببية العدم - التي نتبنّاها - من حيث نشعر أو لا نشعر.

في نهاية المطاف، الذين يرهنون حيواتهم إلى المصادفات إما أنهم مسطولون أو لا علاقة لهم بحركة العالم في انتظارها كي ترفع الساقط من أدائهم وتزيّن القبيح من حضورهم وتنجّح الفاشل مما لم ينجزوا أساساً.

تظل شعوباً من وهَن تلك التي تعوّل على المصادفة كي تنقذ ما تبقى من مواتها واختصارها. أفراد خلقوا لمطاردة السراب أولئك الذين يولدون ويحيون ويموتون وهم متعلّقون بأستار المصادفة في طقوس لا تقل صنمية عن الطقوس التي عهدناها في تاريخ بعض الشعوب وحتى حاضرهم. حاضرهم الذي نُعاين ونشهد.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3799 - الأربعاء 30 يناير 2013م الموافق 18 ربيع الاول 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 4:02 ص

      اخي العزيز انت مخطئ

      ما تقوله منطق عدمي لا يقارب الحقيقة فعلى سبيل المثال لو افترضنا حسب منطقك انه لا مكان للمصادفة وان الأمور مدبرة بقوة عظمى تتحكم بهذا الكون من شر وحجر وغير ذلك تبقى مجرد فرضية لا اساس لها في الواقع ولا تستند لحقائق منطقية لذا يبقى الجدل في هذه المواضيع مجرد فرضيات بعيدة عن الحقيقة والفرضية حتى ولو قاربت الحقيقة بنسبة 99% يبقى عامل الشك لوجود الخلل في 1% إن ما ذهبت اليه وما تقوله وتجزم به يعبر عن دواخلك الدينية فأنت تؤمن بالقدر وتؤمن بالفرضيات كحقائق ولكن المنطق العلمي شئ آخر اخوكم بوحنان

اقرأ ايضاً