العدد 3824 - الأحد 24 فبراير 2013م الموافق 13 ربيع الثاني 1434هـ

النوم على الذل مغموساً بالعار

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

يذكر الرحّالة والمؤرّخ، أبوعلي بن الحسين بن علي المسعودي (346هـ) في سفْره «مروج الذهب»: «دخل عبيدالله بن العبّاس على معاوية وعنده قاتل ابنيه، بسْر بن أرطأة العامري (بسر بن أرطاة وقيل‏:‏ ابن أبي أرطاة، واسمه عمرو بن عويمر بن عمران بن الحليس بن سيار بن نزار بن معيص بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن‏، مات زمن الوليد بن عبدالملك سنة ست وثمانين) فقال له عبيدالله: أيها الشيخ، أنت قاتل الصبيين؟ قال: نعم. قال: والله لوددت أن الأرض أنبتتْني عندك يومئذ. فقال له بسْر: فقد أنبتتْك الساعة. فقال عبيدالله: ألا سيف؟ فقال بسْر: هاك سيفي. فلما هوى عبيدالله إلى السيف ليتناوله قبض معاوية ومن حضره على يد عبيدالله قبل أن يقبض على السيف. ثم أقبل معاوية على بسْر فقال: أخزاك الله من شيخ، قد كبرت وذهل عقلك، تعمد إلى رجل موتور (الذي قُتِل له قريب فلم يطالب بدمه) من بني هاشم فتدفع إليه سيفك، إنك لغافل عن قلوب بني هاشم، والله لو تمكّن من السيف لبدأ بنا قبلك. قال عبيدالله: ذلك والله ما أردت.

لعبيدالله بن العباس سيرة انحراف ذكرها أكثر المؤرخين من حيث نفعيته واختلال قناعاته ومواقفه وخضوعه لإغراءات شتى، هو ابن وجهاء دين لم يعدموا وجاهة الدنيا بين الناس في الوقت نفسه. الجيش الذي بعثه معاوية سنة أربعين للهجرة في ثلاثة آلاف إلى المدينة وما فعل بها، ومن ثم إلى مكة فإلى اليمن، وكان عبيدالله بن العباس والياً عليها من قبل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وحين بلغه وصول ابن أرطأة اليمن خرج عنها وخلّف ابنيه عبدالرحمن وقثم فقتلهما بسْر وقتل معهما خالاً لهما من ثقيف. ارتياد مجلس من فعل بأهله ما فعل لم يحدث إلا بشراء ذمم سبقه موت حس وشعور. ما يذكره المسعودي على رغم ثقته وشهادة مؤرخي عصره والعصور التي تلته، في الحادثة آنفة الذكر، من حيث طلبه السيف، ومن حيث سذاجة إعطائه السيف على رغم أن ابن أرطأة وقتها بلغ مبلغاً من الخرف حتى أنه كان ينجي؛ أي يتغوط ويدني فمه من غائطه يتناوله لدعاء علي حين بلغه ما فعل في المدينة ومكة واليمن؛ إلا أن المؤرخ (المسعودي) والمفجوع الذي نسي فجيعته في ابنيه (عبيدالله) مطعونان في ذمتهما؛ وإن تفاوتت درجة الطعن.

ورود مجالس فيها دم أصيل ومن دم الصلْب خصوصاً، لا يعدو ما بعد موت الحس والشعور، ولا يعدو انسجاماً مع خيار أو غصب وحال البطش والقوة وقتها ليسلْم وإن قتل أحد ابنيه قتْلَة ربما لم تعرف في جاهلية أو إسلام وكان رضيعاً؛ إذ رمى به جداراً في البيت فسال مخه.

لسنا بمعزل اليوم عن النماذج تلك من التاريخ في حاضرها الذي تتكرر صوره وشواهده ومشاهده ومواقف بشره؛ وإن من زوايا وتوظيفات مختلفة؛ قد تطغى وقد تتطبّع بحال من الركون والسكون الذي هو في حقيقته لا يقل خزياً وعاراً عن الطغيان ذاته.

فاصلةٌ تحدد انتماء أي منا للترابيين؛ بمعنى أولئك الذين لا يريدون أن ينفكوا عن مستوى ما جاءوا منه من حيث ضعته؛ أو للذين نصْب عينهم السماء علواً ورفعة وعزة وامتداداً في العميق والجميل من الأثر. بين ظهرانينا اليوم من لا يجد رفعته إلا في السقوط ولا يجد عزته إلا في الإهانة والارتهان والتبعية. مثل أولئك لا يذهبون إلى تيههم الاختياري متحمِّلين مسئولية خيارهم؛ بل ينعكس ذلك على اضطراب يمس بنية الخلق والإنسانية من حولهم؛ إن كان من طريق مباشرة أو غير مباشرة.

ذلك الذي ينسى أو يتناسى ما تعرض له من بسيط الإهانة أو مُركّبها، لن يتردّد لحظة في نسيان أو تناسي إهانات كان طرفاً فيها أو دالّا عليها وساهراً للتيقن من أدائها كما يجب أو يحب!

في العفو لا تتوارى الذاكرة عن التفاصيل، تظل حاضرة هناك، راسخة، يقظة تحسّباً لإعادة الكرّة. العفو زينة الروح والنفس؛ ولكن من الغباء أن يكون مقارناً بنسيان التفاصيل التي لا يملك مخلوق التحكّم بها مهما تعاظمت الإغراءات وامتدّت المُنح وتطاولت.

الذاكرة البشرية إذا توافرت على عزة نفس وصلابة روح وتفرّد موقف تكون مزعجة ومُكْلفة لمن راكم عذاباتها وإهاناتها واستباحة حقها في الحياة ممارسة للفطرة، باحثة عمّا يعمّق قيمتها ويراكمها. الذاكرة البشرية لا ولن ترحم أولئك الذين عذَّبوا والذين عُذِّبوا فتعاملوا مع عذابهم الغابر كأنْ لم يكن.

المؤرخ ينسى أو يتناسى أو يُبتز أو لا يحتاج إلى كل ذلك. بعضهم يكون رهن إغراء وبعض آخر برسْم الإهانة توارى عن حقيقته أو كان راية حمراء لذوات صفْر الشرف. ثمة ما ينسيه من جهة ويجعل ذاكرته متوقدة من جهة أخرى. بعض الذين مسّهم ضُرُّ ممن هم من المفترض أن يكونوا نظراءهم في الخلق في أقل تقدير، يتبرّعون بنسيانهم مع قُبُلات لما يمكن تقبيله وما لا يمكن مسّه أساساً.

لأولئك الذين تلاشى وذوى الحس فيهم. للذين تعاملوا مع إهاناتهم واستباحة دمهم ودم أهليهم باعتباره من جماليات الهيمنة والسطوة اللتين لابد من التواؤم معها والانسجام معها. للذين يبحثون عن الواقعي في الوهم، وعن الرومانسية في الجحيم. لأولئك الذين إلى اليوم ينحازون إلى غروب الحياة فيهم، بكل ما تحمله تلك الحياة في معناها الحقيقي من قيمة وأثر. لحقيقة الحس الغائب والروح المواراة من دون أن يحتاج الجسد الذي تحويه إلى متر قبر أو مترين. للنوم على الذل مغموساً بالعار الذي ألِفه أولئك: ما الفرق بين حياة كتلك وقبر؟

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3824 - الأحد 24 فبراير 2013م الموافق 13 ربيع الثاني 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 12:38 م

      بلاغة

      عمودك اليوم نوعاً ما يستصعب قرائته الكثيرين وما استنتجته اننا محلك سر تاريخ

اقرأ ايضاً