العدد 3829 - الجمعة 01 مارس 2013م الموافق 18 ربيع الثاني 1434هـ

الرسائل السوداء

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

في شهر أغسطس/ آب الماضي فرَّ آلافٌ من مدينة بانغلور الهندية. مسئول رفيع في المدنية قال: ما يقرب من خمسة عشر ألف شخصٍ تركوا المدينة (في بحر يومين). مأساتهم بدأت بارتدادات هروب ما يقرب من ثلاثمئة ألف شخص آخرين، فرُّوا على عَجَلٍ «بعد معارك بين قبائل بودو المحليين ومستوطنين مسلمين في آسام» فانعكس ذلك على مهد التكنولوجيا الهندية «بانغلور».

انعكاس ذلك الصراع في آسام على مدينة «بانغلور» كان «افتراضياً» بامتياز، بعد «انتشار إشاعات»! نعم مُجرِّد إشاعات، بثها مجهولون، فحوَّلوا حياة جزء كبير من ناسها إلى جحيم لا يُطاق. ظَهَرَ رئيس الوزراء الهندي مانموهان سيغ بنفسه غاضباً وقال: «علينا أن نعمل معاً حتى لا يشعر أشخاص في ولايات أخرى أنهم مُهدَّدون بسبب إطلاق إشاعات ورسائل إس إم إس».

لنا أن نتخيَّل ما جَرَى في تلك المناطق المنكوبة بسبب «الإشاعة» لا غير. فإذا كان خمسة عشر ألف إنسانٍ نزحوا في يومين فقط، فهذا يعني أن أسبوعاً واحداً كافٍ لهجرة أزيد من اثنين وخمسين ألفاً من البشر. وإذا ما استمر الصراع شهراً فهذا يعني أن أكثر من مئتي ألف سيُجبرون على الهجرة قسراً. وعندما يتهجَّر مثل هذا العدد الكبير في مدة زمنية قصيرة، فإن مشهد الحياة كلها سيتغيَّر في تلك المدينة الجميلة، سواء في جغرافيتها أو اجتماعها حتى.

فإذا كان أولئك المُهجَّرون ينتمون إلى عوائل صغيرة أو مُركَّبة، فهذا يعني أنهم تركوا وراءهم بيوتاً خاوية. وتركَ أبناؤهم مدارسهم. ولم يعد هناك مجالٌ لأن تذهب الزوجات إلى السوق للتبضُّع. وإذا ما كان كل فردٍ منهم، لديه مئتا دولار، فهذا يعني أن أكثر من أربعين مليون دولار قد خرجت من المدينة، في غضون شهر، وهي التي كانت تسمَّى «سيليكون فاليه» الهند محاكاةً بما هو موجود في الولايات المتحدة الأميركية.

الأكثر من ذلك، فإن تلك المنطقة، التي يعيش فيها قرابة الربع مليون إنسان، قد فَقَدَت جزءاً مهماً من نسيجها الاجتماعي، الذي بنته لمئات السنين، والذي كان متوزعاً على موزاييك إثني وعرقي متميِّز. وبالتالي، فقد أعْمَلَت تلك «الإشاعات» البائسة، عملها الأسوَد في ذلك المجتمع المتساكن، وهيَّأته للفتق والانشقاق لسنوات قادمة، سيعيش خلالها الناس في ريبة من بعضهم.

والحقيقة، أن هذه الحادثة، تدفعني للتأمُّل في واقعنا الذي لم يعد خافياً على أحد، كونه مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالفَوَرَان التكنولوجي، الذي اجتاحنا ونحن على أسِرَّة نومِنا. كثيرون منا باتوا يتلقون ما لا حصر له من الأخبار والمتابعات والتحليلات التي فاقت حتى مصداقيتها على الأرض، فلم نعد قادرين على مجاراته، وتركيبه على مشاهده الأصلية لكثرتها وتشابهها.

المشكلة، أن كثيراً من تلك الأخبار وتلك المتابعات والتحليلات، ليست كمسمياتها، بل هي عبارة عن «أهواء أفكار» يصيغها مَنْ يريد لها أن تُكتَب بطريقة مُوجَّهة، ليتم بثها على الناس، وكأنها أنباءٌ صادقة، بل وكأنها صادرة عن قلب الحدث، كما بات يُذيِّلها البعض، وهي أبعد ما تكون عن الصدق وعن الحدث، لأنها غير متوافقة أصلاً لا مع صحيح العمل ولا مع طبيعة الوقائع.

لقد علَّمتنا الصحافة والمهنية فيها، أن الخبر، لا يُسمَّى خبراً إلاَّ إذا مُحِّصَ كتركيبٍ له تقنيته وآلياته ومصادره وزاويته وهَرَمِه وغيرها من الشروط الفنية، لكي يتمكن أحدنا من اعتباره خبراً صالحاً للنشر، وبالتالي مُصدَّقٌ فيما يقوله. أما ما يتمُّ تداوله في حاضرنا على الهواتف الذكية، فإن أغلبه لا يُسمَّى خبراً بقدر ما هو «إشاعة» رخيصة، يُرادُ لها عنوةً أن تكون خبراً كيفما اتفق، كي يُحقق مراده السياسي ضد خصوم هم في الأساس من صميم اجتماع الناس ومادتهم.

لقد باتت هذه «الأخبار الجوَّالة» تمنح الناس والجماعات صكوكاً للشر والخير، فتشير إلى هذا على أنه شريف، وإلى ذاك على أنه دنيء. وتحشد استعطافاً هنا وتجييراً هناك، حتى صرنا لا ندرك ما يجري حولنا، وكأننا في ليلة ليلاء لا نرى أكُفّنا فيها من شدة الظلمة.

المشكلة، أن بعض الأخبار أصبحت تمنحنا حتى النصائح الطبية، من دون أن يعلم أحد مدى صدقيتها وصلاحيتها العلمية. كلوا من هذا ولا تشربوا من ذاك، حتى بات علم الطب يُباع على الأرصفة، أمام هذا الابتذال والسيولة غير العلمية. وهو أمرٌ قد يبدو عادياً لكنه يُؤسس لثقافة الغش العلمي، الذي بات عنواناً للفساد حول العالَم، والذي أدَّى إلى ضررٍ غير قليل ببني البشر.

وأمام ضعف «الحقيقة» تجاه «الإشاعة» أصبحت الأشياء كلها رتيبة قُدَّامَ أعيننا، فقد غاب البرزخ ما بين الصدق والكذب، والمحسوس وغير المحسوس، وتصلَّبت العواطف في القلوب حتى قَسَتْ. وإذا ما قسا القلب قحَطَت العين مثلما قال بن القيم الجوزية. كما نَشَفَت الأمزجة وضعفت العقول، بعد أن باتت أسيرة لما تكتبه أصابعٌ مجهولةٌ من وراء حُجُب، لا ندري ماذا تهدف ولا إلى أيِّ شيء تريد أن تأخذنا إليه، سوى أن نصبح سُكارى لحظاتنا وساعاتنا بغير هدىً ولا دراية.

لقد بدأ الناس يغادرون الأسفار وقراطيس الكتب وأمهاتها، وهي التي حَمَتْ لنا تراثنا الإنساني، منذ أن كان آباؤنا الأولون، يخطون أفكارهم على الصخر والبَرْدِيّ، طمعاً في أن تبقى تجربتهم حاضرة لمن سيأتون بعدهم. فَكَتَبَ لنا حامورابي القانون قبل أربعة آلاف سنة، وسقراط المنطق وأفلاطون الفلسفة وأبقراط الطب وبلوتارخ التاريخ وفيثاغورس الرياضيات قبل آلاف السنين.

اليوم، نحن أمام تحدٍ كبير لتثبيت المعلومة الصحيحة، والخبر المطابق للواقع. وهي في الحقيقة، معركة العلم مع الجهل. وإذا لم يتداعَ الجميع لمعالجتها ومواجهتها، فإن انتظامها واستمراريتها ستكلفنا الكثير من الأشياء.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3829 - الجمعة 01 مارس 2013م الموافق 18 ربيع الثاني 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 6 | 11:46 ص

      حوارات

      مهزلة المهازل اليوم في هذه المواقع وهذه الفرق فيها فترى حورات غريبة يقع فيها حتى المثقفون والمفكرون حين يتحاور جاهل مع مفكر كبير او عالم جليل فحينها يسقط الجاهل مع المفكر .

    • زائر 5 | 7:54 ص

      هدفها الأساسي الحروب

      عندما ترى ما يسلط عليك الإشاعات فاعلم انه يحاربك والسبب هو أن الإشاعة غرضها الأساسي هو الحروب

    • زائر 4 | 3:09 ص

      شكرا لك

      مقال رائع
      سلمت يداك

    • زائر 3 | 3:07 ص

      صدقت

      بتنا نكتفي بالقشور ونترك اللب
      تبالغ في النقد دون أن نحاول التغيير
      نحس أن هناك من يجر علمنا من شباب وفكر وثورات إلى الهاوية .
      ونتساءل إلى أين سنصل ؟!

    • زائر 2 | 11:17 م

      رحم الله والديك يا اخى

      تسلم يداك نعم الخبر لايسمى خبرأ الأ ادا محص كتركيب له تقنيته والاياته ومصادره ترى يا اخى عندما تنظر الى الفريق الاخر فترى العكس تماما وهم اصحاب الدمم الرخيصه جدأ جدأ يكدبون ويماطلون ويسرقون منافقين من اعلى رئسهم الى اخمص قدميهم رجال دين منحرفين بكل ما تعنيه من كلمه يسترخصون دماء البشر يسيرون عكس اتجهاه البشر الحق عندهم باطل والباطل عندهم حق الشريف عندهم دنئ والدنئ عندهم شريف وهلما جرى

    • زائر 1 | 10:08 م

      نحن حدث عندنا ذلك من باءس طلب تكون مليشبات للمحافظة على احياء ومناطق بعينها

      لن ننساها عندما خرج ذلك الصوت النشاز يطلب تكوين المليشيات والتزود بكل اسباب القوة للدفاع عن احياء ومناطق تسكنها ومادا حدث بعدها حدث مالايدخل في الحسبان اعتداءات وقتل البعض كشهيد الحجيري ومحاولات تهجير لم يكتب لها النجاح هذا عندنا في البحرين وحدث عن طريق التصريح العلني وليس عن طريف الرساءل النصية.

اقرأ ايضاً