العدد 3841 - الأربعاء 13 مارس 2013م الموافق 01 جمادى الأولى 1434هـ

الحياة ليست مدناً تتطاول فيما الإنسان يسحق

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

الحياة لن تكون عاقلة بالمجانين. حتى البشر من حولنا لو عاشوا وحوصروا بشعب من المجانين لمسّهم شيء من ذلك الجنون؛ ليس بالضرورة أن يكون خروجاً على أبسط ما يعرفه العقل البشري، واعتاده الإنسان. لم يجعل الحياة معقّدة ومُربِكة إلاّ الذين هم متورطون في العُقد والإرباك.

الحياة سهلة حين لا يتعمّد أحدهم وضع العراقيل أمام إنسانها؛ بغضّ النظر عن طبيعة تلك العراقيل. الحياة جميلة، وما يجعلها قبيحة أولئك القبيحون في أرواحهم وليس بالضرورة أن يعانوا قبحاً في أشكالهم.

استمرت الحياة بعد الجريمة الأولى في التاريخ البشري. ظل الإخوة إخوة في الحياة. بعض الإخوة أصبحوا أعداء، وبعض الأعداء أصبحوا إخوة، وبعض ثالث لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، مجرد رقم في الزحام البشري. الحياة استمرت على رغم اكتظاظها بأكثر من قابيل وهابيل.

كل فضيلة في الحياة لم ينجّسها حيوان لا إدراك ولا وعي له. نجّسها الإنسان وهو المكرّم من ربه. نجّسها بشهوة الاستملاك والاستهلاك والهيمنة. كأنه بذلك يردّ على خالقه، ويريد لكيانه المنتخب المصطفى أن يذهب إلى النقيض من الخيار الذي رُسم وأُريد له.

كل فضيلة في العالم اليوم أو ما تبقى منها تُجهز عليها رعونة وبهيمية بعض المحسوبين على البشر أو أشباههم.

القلق اليومي لا تخلقه الطبيعة. الكراهية، التآمر، الدسّ، الترصّد، الاغتيال، الوشاية، الموت، الاختطاف، الجهل، الجنون والأوبئة المصطنعة، تلك التي تمس الأجسام أو تلك التي تمس الأرواح والأنفس، في انحرافها وقصْد وتعمّد ذلك الانحراف والذهاب في طلبه، لم تخلقه الطبيعة الجامدة من حولنا. خلقه كل ذلك وأوجده الذين التحقوا ربما بجامعات كبرى ليعودوا مصدّرين الجهل والإمعان في المخططات والتفتيت. لا يعنيهم استقرار سواهم. يروْن في استقرار سواهم اضطراباً لهم. خلقه أيضاً أولئك الذين لم ينالوا حظّاً من المعرفة والعلم فأرادوا أن يضيّعوا ويُصادروا ما اكتسبه الناس من حولهم.

السياسات المتلوّنة والمُفسدة هي أحد أسباب انهيار مناعة الحياة. للحياة مناعة كما لأي منا مناعة. حين تُبتلى بالفاشلين والتنابلة الذين ينتظرون إطعامهم وهم في ذروة خمولهم في حظائرهم وأماكن رغائهم وثغائهم ونهيقهم، كل أولئك يسهمون في الدفع بمناعة الحياة إلى درجات انهيارها وضعفها. والإنسان ليس بمعزل عن تلك الحياة والمناعة، مناعته من مناعتها، وأيضاً مناعتها من مناعته.

لا يحتاج أيٌّ منا إلى أن يذكّر نفسه أو يذكّره أحد بهوْل ما وصلت إليه الحياة وإنسانها. لا تكون الحياة حياة حين يُغيّب إنسانها ويُسفّه ويتم الحطّ من كرامته. لا علاقة للحياة بمثل تلك الممارسات. إنها على النقيض. على النقيض من تثبيته وتمكينه في الأرض. لا يكون تثبيتاً وتمكيناً باهتزاز قيمته، ولا يكون تمكيناً باستلاب واستلال أبسط حقوقه في الحياة التي نحن بصددها.

حتى في المقياس القائم بتقسيم العالم إلى شمال وجنوب؛ إذ الشمال في استقراره ونعمه الوافرة وريادته في المجالات كافة، والجنوب في بؤسه وعوزه وتخلّفه ومحاولات احتوائه واستغلاله وتجهيله، كل ذلك لم ينتج ويقم ويُكرّس لولا أن يداً في التصنيف الجنوبي ذاك عبثت بالحياة، وفي المقابل ثمة يد في التصنيف الشمالي ذاك عبثت في الوقت نفسه وتورّطت ورفدت من أجل تعميق ذلك التصنيف وتجاوزه في أدبيات الجغرافية والسياسة إلى واقع قائم.

بالممارسة على الأرض اليوم، وبالسياسات التي هدفها الاحتواء، ثمة أكثر من جنوب في الجنوب إذا ارتضينا مثل ذلك التصنيف المصطنع والمُخلّق. ثمة حياة لا أثر يدل عليها إلاّ في الظاهر من التفاهات والفارغ من القيمة، والمعطّل من المحتوى. الحياة ليست مدناً تمتد فيما الإنسان يُشلّ ويسحق، وليست أرقاماً مهروسة - صدقاً أو كذباً - بمعدلات النمو في الاقتصاد الذي يهيمن عليه قلّة على حساب ضمور الغالبية، وليست بنى تحتية تنفذ للطرق التي يعبرها السائح؛ ليحجب عنه الوجه الكالح من المُوارى في الضواحي وما بعدها. أعني ما بعدها بما لا يليق بحياة البهائم لا البشر.

الإنسان لم يُخلق كي يأتي أحدهم ويسمّم الحياة من حوله ويلوثها. خلق كي يحُول دون مثل ذلك التسمّم والتلوث. من يقوم بذلك كله ليست كائنات تسلّلت في ليل من كواكب قصيّة لتعود أدراجها من حيث أتت. يقوم به من كنا نعتقد أنهم بشر مثلنا يحزنون ويفرحون وينسون ويتذكرون ويمشون في الأسواق ويقبّلون أطفالهم في الصباح وقبل النوم. يقوم به الثرثارون والمطبّلون باسم القانون وحقوق الإنسان وصداع له أول وليس له آخر من قائمة وبنود الفراغ الذي لن تجد ما يدل على أثر لامتلاء فيه.

نخجل أن نطلق على الحياة اسم حياة فيما الممارسة على الأرض مشروعات قتل وتصفية وتهميش واستغلال لا ينتهي، ويبدو أنه لن ينتهي بطبيعة الممارسة على الأرض.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3841 - الأربعاء 13 مارس 2013م الموافق 01 جمادى الأولى 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 6:10 ص

      اقرا مقال دهنيم

      ياريت تقرا مقالها وتفكنا من تعقيداتك الببساطة اجمل

    • زائر 3 | 4:32 ص

      للشرف والفضيلة اناس وللجرائم اناس

      هي الدنيا ارادها الله امتحانا لخلقه والشقي من تغرّه الحياة ولا يتعظ
      انت في امتحان والله يسجل عليك مشاهد مصورة تلقاك يوم حشرك
      ما تقوم به من تنكيل وتعذيب وظلم لهذا الشعب هل تعتقد ان الله
      غافل عنه
      هل تعتبر ان الكذب والفبركات سوف تنجيك اما عدل الله واضطلاعه على خفايا الامور؟
      ما اعجبك ايها الانسان تبوء نفسك مكانا مخلدا في النار من اجل دينا
      زائلة هل هذا عمل يقوم به مؤمن يؤمن بالمعاد والحساب والجنة والنار

    • زائر 2 | 3:54 ص

      شكرا

      سلمت وسلمت يداك

    • زائر 1 | 1:22 ص

      بنايات عمارات ابراج شاهقة طرقات واسعة

      لكنهم نسوا الانسان وغالبية الشعب بلا سكن ولا وظائف فكيف نعيش ونراهم يتنعمون ؟؟؟المواطن ينتظر وحدة او قسيمة ربع قرن واكثر ولحد اللحظة -الان- لم يعطى شيئا بلغوا من العمر 50 او اكثر مواطنبلا وطن ليس له منه الا 50 دينار علاوة غلاء تعطى له بمنة وتشهير بالصحافة عيب عليكم يا مسئولين

اقرأ ايضاً