العدد 1526 - الخميس 09 نوفمبر 2006م الموافق 17 شوال 1427هـ

عشرة أيام في أميركا... الدين والحياة

الشيخ حميد المبارك hameed.almubarak [at] alwasatnews.com

في شهر يونيو /حزيران - 2006 كانت لنا زيارة عمل لواشنطن، وذلك بالتنسيق بين وزارة الشئون الإسلامية بمملكة البحرين والسفارة الأميركية، وهدف الزيارة هو التعرف على طريقة التفكير لدى الفاعلين الدينيين في أميركا، وكيف ينظرون إلى الإسلام والمسلمين، وكذلك المساهمة في التعريف بالإسلام، وكيف ينظر المسلمون إلى الغرب في بعديه الحضاري والديني.

وقمنا بزيارات لعدة مؤسسات ومراكز أبحاث ذات أهمية في أميركا، ولأن التجربة كانت محملة بمعاني مفيدة لذلك ارتأيت عرض بعض الأفكار التي نوقشت خلال الزيارة.

كانت محطتنا الأولى هي المركز العالمي للأديان والدبلوماسية بواشنطن ورئيس المركز هو (mr. Douglas Johnston) والمركز أهلي، غير ممول من قبل الحكومة. وفي بداية اللقاء تحدث رئيس المركز موضحاً أهداف المركز وطريقة عمله، وأوضح أن الهدف الأصلي للمركز هو إدخال الدين جزءاً من الحل للمشكلات الحاصلة في المجتمعات في قبال الدعاة الى الفصل بين الدين والسياسة وهم الأكثرية في أميركا وبقية دول الغرب.

وأضاف أن النظام والثقافة في الغرب بالغ في فصل الدين عن الدولة وأدى ذلك الى الحرمان من الاستفادة الايجابية من القيم الدينية في التقريب بين الطوائف الإنسانية المختلفة، فالذي اعتقده أن بالإمكان ان نجعل من الدين مثيراً للجانب الرحماني في الإنسان، ومساعداً له على نبذ العدوان. ولذلك فعملنا يتلخص في ممارسات دبلوماسية معززة بالدين، ونسعى الى تحقيق درجة معقولة من دمج الدين والسياسة لتحقيق السلام بين الشعوب والجماعات في قبال الفصل التام الذي ينادي به الكثير هنا، والأمر المحير هو أن الدين هنا في أميركا محترم جداً، وله انعكاسات في مساحات الحياة، ولكن لأجل الفصل الدستوري بين الدين والسياسة فإن الدولة لا يمكنها الاستفادة من العامل الديني في الدبلوماسية الخارجية. ومع ذلك، فإنه توجد منظمات أهلية تهتم بهذا الأمر.

ومن المهمات الأساسية لهذا المركز التدريب العملي على كيفية التعامل في مساحة الاختلاف فدائماً توجد مفاهيم يمكن طرحها بأساليب مختلفة وفي كثير من الأحيان لا تكون المشكلة في مضمون الطرح بل في أساليبه وطرقه، وحتى انه توجد اصطلاحات وتسميات في التفكير الديني قد يغفل الفاعلون الدينيون عن تداعياتها السلبية لأنهم لم يتدربوا جيداً على محاورة الأخر، فهم يستخدمون تلك الألفاظ في مساحات مغلقة، ومن دون الالتفات إلى كونها صادمة للأخر، فقد يكتسب المصطلح إيحاء سلبياً بتأثير ممارسات تاريخية سلبية كمصطلح أهل الذمة بالنسبة إلى اليهود والنصارى، فهو في حد ذاته إيجابي جداً لأنه مأخوذ من الذمام والعهد، ولكن نتيجة لبعض الممارسات فقد اكتسب دلالات عارضة وصار يعكس حالاً من الطبقية في التعامل السياسي والإجتماعي داخل المجتمع الواحد.

قد يكون اكتساب السلبية نتيجة لمسار تاريخي معين كمفهوم التقية عند بعض المسلمين مثلاً ، فهو في نفسه يعنى حالاً عقلائية يستخدمها كل أحد في حياته اليومية، وحتى داخل أسرته. فلكي تعيش الحياة بمرونة معقولة يلزمك أن تتأقلم الى حد ما مع الواقع الذي تختلف معه ولكن هذا المفهوم اكتسب إيحاء سلبياً لأنه اقترن بتاريخ من غالبية سياسية ومذهبية قاهرة إلى حد الحكم بالموت على من يخالفها حتى في تفاصيل العبادات الفردية وأقلية مقهورة إلى حد الخوف المطلق، وكذلك من التدريبات المهمة أن يتعلم الفرد كيف يخرج من دائرة الانتقام والمغالبة عند مماحكة الآخر، وان ينظر إلى الأمور من خارج الإطار الضيق الذي تصنعه تحديات المجابهة والمنافسة.

وجاء عن النبي محمد الحث على عدم الاستمرار في الجدال والمراء، ولو كان الشخص يرى نفسه محقاً فهذه أيضاً دعوة لعدم الانسياق في غمار التحدي البيني، والذي يمكن أن تنتجه أجواء المناقشات والتحديات الفكرية، ولدى هذا المركز تجربة مهمة في كشمير إذ حاول مساعدة بعض قادة الصراع على التخلص من روح الانتقام والتحدي في الصراع بين المسلمين والهندوس ففي نهاية بعض الجولات صرح أحد قادة المسلمين بأنه قرر التسامح مع بعض المعتدين الذي قتل بعض أفراد عائلته أثناء الحرب وكان يقول ذلك بتأثر بالغ وهذا ما جعلنا نلتفت إلى الامكانات الكبرى لدى المسلمين في سياق التسامح والعفو عند المقدرة كما هو مكرس في النصوص الإسلامية.

والجانب الثالث في عمل المركز هو التدريب على ثقافة النقد والبحث، ففي باكستان مثلاً ، كانت جهود لإصلاح مناهج الدراسة في المدارس الدينية إذ تحولت الى مجرد أماكن لحفظ القران وتعليم بعض العقائد ويتلقاها الطلاب بالتسليم من دون نقد ومناقشة، وكان الرفض من جهة المدارس شديداً خوفاً من علمنة المناهج كما يقولون، ولكن الحقيقة هي انه لا توجد لدينا خطة محددة لإصلاح المناهج والذي نفعله هو محاولة إصلاح البيئة بين المعلم والطالب، وتشجيع الطلبة على النقد والبحث ولكن لا نخفي إننا نحاول طرح أفكار ترتبط بحقوق الإنسان، والتسامح الديني!

واليوم نجد أنه بدأت تنبثق قناعات بضرورة إصلاح مناهج التعليم ولكن مع التأكيد على كون الإصلاح من الداخل وأن يكون التغيير منبعثاً من التراث الإسلامي نفسه.

وأعقب كلام جونسون بعض المداخلات الناقدة لدعوته الى إعادة إحياء الدين سياسياً، التي تمحورت حول سلبيات استخدام الدين في الحياة، وسأكتفي هنا باستعراض بعضها وأترك التعليق عليها إلى مقالات لاحقة:

1- وجود تفسيرات مختلفة للدين الواحد ولكل واحد من هذه التفاسير طريقته الخاصة في فهم نمط العلاقة بالحياة والإنسان وآليات التعامل مع الآخرين، فما هي الآلية المفيدة والعادلة للترجيح بين هذه التفسيرات المتعارضة؟

2- زعم التضاد بين تقدس المقولة الدينية وبين إنزالها الى مستوى السياسة العملية التي يستحيل فيها التقديس وذلك لأنها متغيرة ولأنها تستوجب اللعب على أرضية المصالح والمخادعات والجمع بينهما يؤدي الى تضاربات وعقد لا تثمر سوى التخريب لطبائع الأشياء والخروج عن ذاتياتها، فمحاولات الدمج بين الدين والسياسة تؤول دائماً إلى تشويه الدين والسياسة معاً!.

3- التاريخ الطويل من الصدام والصراع بين أتباع الأديان والطوائف، بل إن المسافة بين الأديان والمذاهب تتسع يوماً بعد يوم حيث تراكم التلوينات الدينية في كل مرافق الحياة وما تستتبعه من الأفعال وردود الأفعال في سياق ماضويات مجنونة لا تنتج سوى الوهم والخراب.

4- إشكاليات الفهم بين الحضارتين الحديثة والدينية وتنشأ الإشكالات عن اختلاف منطلق التفكير، فالحضارة الدينية تنطلق عن محورية الله ولذلك فهي تتمحور حول التكاليف التي تلزم الإنسان تجاه الله وتبحث عن طريقة الحياة في النصوص الدينية وتتحدث بلغتها وتتقولب على أساس مضامينها وبالتالي فحقوق الإنسان طبقاً لهذه الحضارة ليست شيئاً ذاتياً بل هي حقوق معطاة من قبل الله بمقدار ما يدل عليه النص الديني ولكن الأمر على العكس تماماً بحسب الحضارة الحديثة فهي تنطلق من محورية الإنسان وتنظر إليه كصاحب حق ذاتي يتم اكتشافه من دراسة الطبيعة البشرية وتركيبتها من عقل وشعور وغريزة - حسب سارتر - ويجب أن يعطى الإنسان كامل الحرية في مساحتها - ما عدا القيود الضرورية لحماية هذه الأبعاد نفسها - إذ كل قيد عليها هو قيد على إنسانية الإنسان ومناف لحقه الأولي الذي هو أن يعيش طبيعته الأولى من دون إكراه ولذلك لا تقبل هذه الحضارة أي قيد على الإنسان من خارج الإنسان نفسه وبالتالي فهي وإن كانت لا تعارض المضمون الديني بشكل مطلق لأن فيه الكثير مما ينسجم مع الطبيعة البشرية ولكنها أيضاً لا تقبله كذلك بل تدعو إلى تفكيكه والتعامل معه على أساس انتقائي، وهذا التناقض بين المنطلقين يجعل التصادم بين دعاة الحضارة الحديثة ودعاة الدين أمراً حتمياً لا مفر عنه مهما كانت محاولات التوفيق بينهما، ولا يمكن أن يساهم في تخفيف هذا الصراع أولئك الذين يزعمون عدم التناقض بين الدين والحداثة ولا يفترون عن إطلاق الشعارات في هذا الصدد وذلك لأنهم يستندون إلى أرضية قلقة جداً ويعجزون عن إثبات مدعاهم انطلاقاً من متن الدين نفسه.

وأصبح على زعم التوفيق بين الإسلام والحداثة موضة شائعة بين دعاة التجدد والإصلاح الديني في العالم الإسلامي ولكنهم لن يجدوا في النص الديني ما يثبت مدعاهم أبداً، ولذلك فخطابهم يثير دائماً قلق تجاوز النص حتى لو تظاهروا بغير ذلك كما انهم لا يجدون من يصدقهم بين المسلمين إلا القليل من أمثالهم، بل هم في حقيقتهم إما إسلاميون يتقمصون الحداثة ويشتغلون بالخطاب السجالي الإعتذاري أمام تحديات المعاصرة وإما حداثيون يتسترون بالإسلام لأنهم لا يجرؤون على مصادمة الوعي الديني العام!

هذه محصلة المداخلات وأترك التعليق عليها إلى المقالات المقبلة

إقرأ أيضا لـ "الشيخ حميد المبارك "

العدد 1526 - الخميس 09 نوفمبر 2006م الموافق 17 شوال 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً