العدد 1548 - الجمعة 01 ديسمبر 2006م الموافق 10 ذي القعدة 1427هـ

اغتيال بيار الجميل... الهروب من الأسئلة إلى الباثولوجيا

هيثم مناع comments [at] alwasatnews.com

لأول مرة يقف المرء أمام اغتيال أثيم ينال فقيداً دخل المعترك السياسي شاباً ليطرح أكثر الأسئلة سذاجةً وبداهةً هو: من المستفيد من الجريمة؟ وإن كنت قد قررت، منذ طلبت مني لجنة تابعة إلى المنظمة الأممية استشارةً قانونيةً في تقرير ديتليف ميليس الأول ورفضت ذلك، أن أحتفظ لنفسي بكل ما يختلجها من أسئلة وخواطر في الوقت الحاضر، وخصوصاً أن من الممكن حدوث خلط بين رأي شخصي لي وموقف اللجنة العربية لحقوق الإنسان التي أتحدث باسمها. ولكن استفزني في الحقيقة هذا الصباح الصحافي الفرنسي مارك كرافتس على إذاعة “فرنسا الثقافة”، إذ سمعت تحليله المخصص لرئيس تحرير صحيفة “البعث” الحكومية الصحافي السوري إلياس مراد.

كانت المداخلة ساخرةً محتقِرةً تهزأ بمجرد التفكير في أن القاتل يمكن أن يكون إسرائيلي الدوافع أو يعمل لصالح المحافظين الجدد. والحقيقة إني في مواجهة مراد متأكد من براءة الأمن السوري من كل عمليات الاغتيال في لبنان وخارجه، وكرافتس المتأكد من براءة “إسرائيل” من أية جريمة اغتيال باعتبارها ليست وضيعةً وقمعيةً وأمنيةً. شعرت بأني في ظلال حرب باردة جديدة. وكون الإدارة الأميركية قد نجحت بجدارة في وضع حدٍّ للمشروع الامبراطوري الأميركي فاتحةً المجال للصراع الإقليمي لتعبئة فراغاتها، فقد آثر عدد كبير من الصحافيين الفرنسيين القراءة الإسرائيلية لما يحدث (وهي تتوافق إلى حد كبير على القراءة الأميركية الحالية) على الاحتفاظ بهوامش تسمح بالنقد أو مجرد طرح الأسئلة، وتركونا نحن “العربان” بين خيار أنظمة أمنية قمعية عربية وأعجمية ودولة عبرية شرّعت القتل الفردي والجماعي أمناً وطنياً.

وقع حادث اغتيال الفقيد بيار الجميل في وضح النهار، ولم تكن بمتفجرة بل برجل من دون نقاب من دم ولحم، ونفّذ الاغتيال بعد أسبوع من التصريحات السياسية التي تتحدث عن اغتيالات للوزراء والنواب. كان مجلس الأمن قد أخّر جلسته للموافقة على المحكمة الدولية بعد رسالة من رئيس الجمهورية عن “لا شرعية لاجتماع الحكومة”، وفي لحظة سوداوية، شعر أكثر من مؤيد للمحكمة الدولية بأنها على كف عفريت (اتصل بي نائب رئيس سابق للاتحاد الدولي للمحامين من اسكتلندا صباح الثلثاء - يوم الاغتيال - ليسألني: “هل اشترت السلطات السورية ملف المحكمة بزيارة المعلم بغداد؟”).

بيروت ليست بغداد، والحديث عن تحقيق جدي يصل إلى نتيجة ليس فقط ضرورة منطقية وعقلانية بل هو واجب حكومي وشعبي بعد قرابة عام على اغتيال الفقيد جبران التويني. ولا يمكن باتهام الأمن السوري أو الموساد أن يتم تغييب عنصر أساسي هو أجهزة الأمن ووزارة الداخلية اللبنانية المفترض أنها تخلصت من “الدولة الأمنية” التي شارك في بنائها الفقيد الحريري وعدد مهم من نواب الغالبية الحالية والتي أعطت المشروعية السياسية لتيار 14 آذار. لنقرأ هذا المقطع من مقابلة لجيزال خوري مع رئيس الوزراء اللبناني:

جيزال خوري: دولة الرئيس فؤاد السنيورة مين استلم الأمن هلاّ؟

فؤاد السنيورة: هلاّ فيه أجهزة أمنية، ولكن في مجلس وزراء في وزراء، فبالتالي نحنا يعني هذه الحكومة أساساً جاية لتزيل ما يسمى الدولة الأمنية.

جيزال خوري: طيب فينا نقول نظفتوا هالدولة الأمنية ولا لأ؟

فؤاد السنيورة: هلأ نحن نخطو خطوات ونحن نتقدم على هذا الصعيد.

جيزال خوري: وين صرنا؟

فؤاد السنيورة: أعتقد إن التعيينات الأخيرة اللي قمنا فيها وبعدين هذا العمل اللي عم نقوم فيه وأنا عم تابعه شخصياً مع وزيري الدفاع والداخلية، ومع قادة الأجهزة الأمنية ومع قائد الجيش.

جيزال خوري: أي وزير دفاع؟

فؤاد السنيورة: يعني مع وزير الدفاع الوكيل، ولكنه أيضاً مع قائد الجيش ومع كل عم يصير في هناك تنسيق أفضل، معنويات أفضل أداء أفضل.

جيزال خوري: قائد الجيش؟

فؤاد السنيورة: وقائد الجيش حتماً، يعني في كل.

جيزال خوري: قائد الجيش يعطيك التقرير لك أو للرئيس لحود؟

فؤاد السنيورة: عم يعطيني أنا إلي شو يعني شو علاقته مع الرئيس لحود أعتقد إنه كمان فيه هناك حسب الأصول كمان بتتم، لكن أنا هذه العلاقة من خلال علاقة مباشرة بيني وبين قائد الجيش، وأنا عندي ثقة بقائد الجيش وأيضاً برؤساء الأجهزة الأمنية الموجودين” (انتهى المقطع).

لن أدخل في الجدال اللبناني- اللبناني بشأن دور المحكمة الدولية في استقالة الوزراء أو تحمل أوزار الطريق المسدود للوفاق السياسي في لبنان، فالوضع الدولي لم يعد مثل ذي قبل بكل المعاني. فالإدارة الأميركية تترنح والحكومة الإسرائيلية تتطرف لتغطية عوراتها، وفرنسا بدأت الحملة الانتخابية الرئاسية، ولا تشارك عائلة الحريري حتى الآن في تمويل أي من المترشحين للرئاسة الفرنسية. ولعل من آخر هموم الطبقة السياسية الصاعدة في اليسار واليمين ارتباطات والتزامات جاك شيراك الشخصية. من هنا، فإن الدوافع الاستراتيجية التي كانت وراء تدويل “القضية اللبنانية” تمر في طريق وعرة، إذ يمكن أن يعود هذا البلد إلى الصفوف الخلفية في الاهتمامات الغربية لأسباب داخلية (في فرنسا والولايات المتحدة) أو إقليمية (تسرطن المستنقع العراقي).

عدت إلى الصحف في أسبوع اغتيال الفقيد رفيق الحريري لأقرأ التصريحات السياسية واخترت منها تصريحات وليد جنبلاط، الذي أكد في تصريحاته أن الأجهزة الأمنية السورية اللبنانية مسئولة مباشرة عن اغتيال الحريري. وبعد أيام عندما أحرجه أحد الصحافيين بالقول: “وإن ثبت غير ذلك”، فأجاب: “الأجهزة الأمنية إذا لم تكن الفاعلة فهي لم تقم بواجبها في حماية الشهيد الحريري وفي الحالين يجب عزلها ومحاسبتها”. هذه المرة، وليد جنبلاط يتهم الرئيس السوري مباشرة. ولا يطرح السؤال فيما إذا قامت الأجهزة الأمنية اللبنانية التي عينتها حكومة السنيورة بدورها أم لا؟ ولا يطالب باستقالة أي عنصر أمن؟ ولا يوضح لنا كيف حصل على الأدلة بهذه السرعة؟

ولكن كيف ولماذا يتصرف الرئيس السوري بهذا الشكل اللا عقلاني والاعتباطي؟ فالتفسير موجود: الرئيس السوري مريض، ولذلك لا يمكن عقلنة تصرفاته. وليس من الغريب وهو يفكر في العودة إلى لبنان ليلاً نهاراً، أن يفعل كل شيء من أجل ذلك. طبعاً لم يعد هناك معنى لتوجيه السؤال: لماذا لم يؤجل الاغتيال 24 ساعةً وخصوصاً أن مجلس الأمن لم يقبل آلياً موافقة حكومة السنيورة على المحكمة الدولية؟ كذلك لا معنى لطرح السؤال: كيف يمكن وقف حملة المعارضة ضد الحكومة؟ كذلك السؤال: هل يمكن طرح إسقاط الحكومة اليوم بالحدة التي طرح فيها الموضوع بالأمس؟ طبعاً بمجرد تحويل القضية إلى الباثولوجيا، ليس هناك معنى لطرح السؤال عن المستفيد، ففي الدين كما في السياسة... ليس على المريض حرج! إن جلَّ ما أخشاه، من هذا الأسلوب السهل للتعامل مع الموت والقتل، تحويل الاغتيال السياسي إلى قضية عادية في الحياة السياسية اللبنانية. أي إمكان قتل أي شخص في أي صراع باعتبار أن القاتل معروف مسبقاً. والحال هكذا، لن يكون لأية محكمة دولية، دائمة أو خاصة، أي دور في إنقاذ المجتمع اللبناني من بداهة القتل السياسي

إقرأ أيضا لـ "هيثم مناع"

العدد 1548 - الجمعة 01 ديسمبر 2006م الموافق 10 ذي القعدة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً