العدد 1535 - السبت 18 نوفمبر 2006م الموافق 26 شوال 1427هـ

واشنطن بين الخروج أو الدخول في مغامرة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

التصريحات التي أطلقها الرئيس الأميركي جورج بوش بشأن العراق لا تبشر بالخير. كذلك ذهب نائب الرئيس ديك تشيني في تصريحه الأخير. وفي الإطار نفسه أطلقت وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس تصريحات لا تدل على وجود قراءة جديدة للملف العراقي. فالكل في هذه الإدارة الأميركية لايزال يتمسك بمواقف تشير إلى وجود اتجاه تصعيدي ومراهنة غير واقعية على الاستمرار في المغامرة والتعويل على مكتسبات غير منظورة.

المسألة إذاً بحاجة إلى توقف للتدقيق في تفصيلات المشهد الأميركي في العراق. فالصور الظاهرة على السطح تؤكد وجود فشل كبير في استراتيجية التقويض (الفوضى البناءة) التي اعتمدتها واشنطن خلال السنوات الخمس الماضية. وهذا الفشل ظهر في أكثر من ميدان ولم يعد بإمكان «البيت الأبيض» تغطية المشهد المروع بالكلام عن النجاح في تكريس الديمقراطية وتحويلها إلى معطى سياسي يعكس تلك الرغبة في الحرية.

الكلام الأميركي عن إحراز تقدم في العراق تدحضه الوقائع اليومية التي كشفت عن وجود «أجندة» أخرى تقوم على سياسة تمزيق المجتمع وتفكيك شبكة علاقاته الأهلية وفرز السكان إلى طوائف ومذاهب وقبائل متناحرة تتخندق في مناطقها خوفاً أو حباً في الانتقام. فهذه الحرية التي تعلن واشنطن عنها في تصريحاتها هي في الواقع مجرد موت يومي لشعب عانى من الاستبداد ويعاني اليوم حالات فزع يشرف الاحتلال على تنظيمها وتبويبها تسهيلاً للنهب والسرقة.

إذا كان هذا هو واقع العراق فلماذا تصر الإدارة الأميركية على النفاق وإطلاق تصريحات منافية للمشهد اليومي؟ هناك أكثر من تفسير للعناد الأميركي. وكل تفسير يفترض أكثر من احتمال. مثلاً هل أن واشنطن وضعت خططها العسكرية بناء على معلومات سياسية خاطئة واكتشفت بالتجربة أنها وقعت في مصيدة لا تستطيع الخروج منها من دون دفع الثمن الذي يمس أمنها ومصالحها؟ وهل مثلاً أن واشنطن كانت على علم ودراية بالواقع السوسيولوجي الطائفي وراهنت عليه لتفكيك الدولة وتسهيل خططها المستقبلية في العراق وجواره؟

إلى التفسيرين يمكن وضع الكثير من التأويلات وهي كلها تصب في فرضيات تتراوح بين القصور النظري أو المؤامرة المدبرة. فهل الولايات المتحد قاصرة نظرياً إلى حد أنها لا تملك معلومات مستقلة عن العراق ولا تعرف شيئاً عن تاريخه وتركيبه الاجتماعي والمناطقي وآليات إنتاج السلطة. أم أنها كانت على علم ودارية وخططت للغزو والاحتلال عن قصد وبهدف تشليع البلد إلى طوائف ومذاهب تشكل صورة مصغرة عن النموذج التي تطمح لتصديره إلى دول الجوار والمنطقة؟

بين الفرضية الأولى (القصور النظري) والثانية (المؤامرة) يمكن قراءة الواقع العراقي بعد الاحتلال والنتائج الإقليمية التي أسفر عنها في المنطقة ودول الجوار. فالمنطقة الآن متوترة وتعيش حالات اضطراب أمني ومخاوف سياسية من انتشار النموذج العراقي المتمثل في الاقتتال المذهبي والطائفي. ودول الجوار الآن تعيش حالات استنفار سياسي وقلق أمني من المستقبل في حال قررت واشنطن الانسحاب العسكري من العراق أو نشر القوات أو تجميعها أو زيادة عددها. فكل الاحتمالات واردة وكلها مخيفة للولايات المتحدة ولدول المنطقة في آن. فأميركا خائفة على سمعتها الدولية ومكانتها في العالم ودورها في المستقبل وكذلك هي خائفة على أمنها ومصالحها والقوى السياسية المحسوبة على معسكرها. ودول الجوار خائفة من الفراغ الأمني واحتمال انجرار بلاد الرافدين إلى مواجهات أهلية لا تنتهي إلا بعد كوارث تحتمل الكثير من الانكسارات السياسية لكل القوى والطوائف والمذاهب.

مخاوف دول الجوار لا تقل عن مخاوف أميركا. فالأخيرة تدرك أن انسحابها من المنطقة سيجلب لها الكثير من الخسائر تتعدى دائرة «الشرق الأوسط». ودول الجوار خائفة على المنطقة لأنها ستكون عرضة لاهتزازات أمنية ستؤدي في حال استمرارها إلى زعزعة استقرارها ودخولها في اضطرابات سياسية ذات طابع أهلي.

وبين الخوف الأول والخوف الثاني يمكن إعادة قراءة تصريحات بوش وتشيني ورايس الأخيرة. فهذه التصريحات تكشف عن وجود نزعة تميل إلى إعادة النظر في الملف العراقي ولكن إعادة النظر لا تبدو نقدية وإنما توسيع دائرة النقاش وتطويره ليخدم في النهاية تلك الاستراتيجية التقويضية التي تعتمد تكتيك «الفوضى البناءة».

بعد الانتخابات

تصريحات الثلاثي الأميركي جاءت بعد الانتخابات التشريعية النصفية التي انتهت بهزيمة الحزب الجمهوري ونجاح الحزب الديمقراطي في فرض سيطرته على غرفتي الكونغرس (الشيوخ والنواب). كذلك جاءت بعد استقالة وزير الدفاع دونالد رامسفيلد وخروجه المشين من مبنى البنتاغون. كذلك جاءت بعد تسريب معلومات غير رسمية عن مضمون تقرير بيكر - هاملتون بشأن السياسة الأميركية في العراق. فالتصريحات الثلاثية لم تطلق بناء على معلومات استخبارية تصب في مصلحة «البيت الأبيض» وإنما جاءت لمعاندة الوقائع والتأكيد على التمسك باستراتيجية أثبتت التطورات الميدانية فشلها وأسهمت مباشرة في تعديل مزاج الناخب الأميركي (دافع الضرائب) واستقالة التمساح رامسفيلد من منصبه.

هذا يعني أن إدارة واشنطن لم تصلها الرسالة وأنها لم تتعلم الدرس ولاتزال مصرة على مواصلة سياسة متهورة لا تتردد في استكمال المغامرة حتى نهاياتها المدمرة. الرئيس بوش قال إنه جاهز للبحث في مخارج للأزمة ولكنه يصر على سياسة تطوير أدوات القتل بذريعة منع «الإرهابيين» من الحصول على دولة غنية في موقعها الاستراتيجي والنفطي. ونائبه تشيني قال إن القوات الأميركية لن تنسحب حرصاً على أمن مصالحها وموقعها ودورها. كذلك وزيرة الخارجية أبدت استعدادها للبحث في دور قد تلعبه سورية وإيران في المساعدة ولكنها اشترطت مجموعة مواقف أساساً للقبول في التفاهم.

هذا العناد يعني أن واشنطن مصرة على الاستمرار في نهج التقويض ودفع المغامرة إلى حدها الأقصى، كذلك لا يعني أن واشنطن غير مستعدة للبحث في مخارج مشرفة للانسحاب بشرط أن تلبي الأطراف المعنية مطالبها. وفي الحالين تتجه واشنطن إلى تمرير استراتيجيتها بالتوافق مع دول الجوار والقوى الإقليمية أو من دون التوافق معها.

وبناء على هذا التحليل المقفل الأبواب قررت واشنطن زيادة قواتها في العراق وإرسال 20 ألف جندي إلى المنطقة قبل نهاية السنة الميلادية الجارية.

ماذا تعني زيادة عدد القوات الأميركية في العراق في وقت كانت وسائل الإعلام تتحدث عن بداية تفكير جديد في دائرة «البيت الأبيض» على إثر فشل الحزب الجمهوري في الانتخابات النصفية؟

واشنطن تقول إنها تريد القضاء على «الإرهاب» واحتواء العنف وتوجيه رسالة قوية لمن يفكر بأن الولايات المتحدة قررت الرحيل عن المنطقة قبل تحقيق أهدافها. ولكن السؤال ما هي أهداف أميركا في المنطقة حتى يمكن الربط بين زيادة القوات والاستراتيجية المعلنة أو بين تلك النتائج التي ظهرت ميدانياً في بلاد الرافدين وبعض دول الجوار؟

غموض الأهداف تعتبر نقطة مبهمة في القراءات والتفسيرات. فإذا كان الهدف هو نشر الديمقراطية وتحقيق الإصلاح وبناء دول عصرية فإن النتائج تكشف عن وجود فشل خطير في الاستراتيجية الأميركية. أما إذا كان الهدف هو نشر الفوضى وزعزعة الاستقرار وحماية أمن «إسرائيل» وضمان السيطرة على خطوط النفط وتخويف دول الجوار بالتقويض الأهلي فمعنى ذلك أن النتائج السلبية التي توصل إليها الاحتلال تصب في النهاية في خانة «الأجندة السرية» التي لم يعلن عنها رسمياً.

التصريحات الأميركية التي تلت الانتخابات بشأن العراق لا تبشر بالخير. فهي تحمل دلالات متعارضة وتؤكد من جديد وجود نزعة استعلائية لا تعترف بالخطأ ولا تتعامل مع النتائج بواقعية. فهناك نوع من «جنون العظمة» وهذا النوع من المرض يشير إلى احتمال حصول أعراض سلبية تتراوح بين الغضب السياسي أو التعالي على الفشل... أو ربما الإصرار على الذهاب بالمغامرة إلى حدها الأقصى، وهذا هو الأخطر

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1535 - السبت 18 نوفمبر 2006م الموافق 26 شوال 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً