العدد 3871 - الجمعة 12 أبريل 2013م الموافق 01 جمادى الآخرة 1434هـ

شعرية الخطاب في ديوان البحارنة «في خاطري... يبكي الحنين» (2)

أبدأ عملية الاقتحام الفني للعالم الشعري في ديوان الشاعر محمد تقي البحارنة «في خاطري يبكي الحنين» بشهادة الشاعر في علاقته بالشعر بقوله «لم يكن الشعر عندي من أجل تحقيق جمال لغة التعبير فقط وإنما هو التعبير عن مشاعر النفس بأسلوب رصين وسهل يتجاهله اليوم كثير من الشعراء المحدثين. ولست ممن يستطيع أن يقول الشعر بناء على طلب من أحد. وقد مارست العمل الدبلوماسي والعمل في مجلس الشورى من دون أن أتخلى عن الشعر ووظفت شعري وشعر الآخرين في تضمينه خطاباتي وكتابتي بما يؤيد اتجاهاتي الفكرية وأحياناً بما يلطف الجو على الحضور، ومازلت أفعل ذلك».

هذه الشهادة متضمنة لأكثر من إشارة ومنبه. ففيها نستخلص رؤية نقدية واضحة تترجم مفهوم الشعر عند هذا الشاعر، وتنتقد بعض طرائق الكتابة والإبداع التي انحرفت مساراتها ببعض الشعراء المحدثين. كما نجد فيها اعترافاً صريحاً بكون الشعر لم يكن غاية لذاته بقدر ما كان وسيلة طيعة للتعبير عن هموم الذات وللترويح عنها ولترجمة المواقف والقناعات والمنطلقات التصورية للشاعر.

من هنا تتراءى لنا الخطوط العريضة للسياق الرؤيوي الذي تنتظم في إطاره الممارسة الشعرية عند تقي البحارنة. كما تتراءى لنا معالم السياق النفسي والذهني الذي ينتظم عملية الإبداع عند هذا الشاعر. لقد ارتبطت تجربته الشعرية بتجربته الحياتية، وكان الشعر بوصلته الهادية التي ترشده إلى الجمال وتهديه إلى عشق الإنسان والوطن. ارتبط قلبه وفكره بتراب أرضه، واستحم بأنوار بلاده، واغترف من معين تراثه ليصبح شاعراً للبحرين، وليتسع شعره لكل البلاد العربية. لم تسرقه مهامه التجارية والدبلوماسية من أحضان الشعر، ولم تستطع عزله عن محيطه الفني الذي يرتوي به في كل وقت وحين، وإنما كان الشعر له سنداً ورفيقاً في أسفاره وسياحاته وانشغالاته اليومية، ودفتراً حميماً يعود إليه للتذكر والحنين كلما تغرب عن الديار، وواحة هادئة يلجأ إليها للترويح عن النفس كلما اشتدت الأزمات، ولحظة تأمل عميق تيسر له التخلص من أعباء الحياة كلما تكاثرت المسئوليات. فقد جعل شعره جزءاً من حياته، فلا تستقيم نبضات قلبه إلا بهمسات الشعر وإشاراته، ولا تستوي أنفاسه إلا إذا اختلطت بنسيم الشعر ونفحاته. بهذا الهوس الشعري تعلن هذه الشخصية الشعرية عن حضورها الإبداعي في الساحة الأدبية العربية، ترسم صورتها المتميزة وتفرض وجودها في نادي الشعراء العرب. تحمل معها رصيداً من التجارب يؤهلها لتكون مدرسة شعرية ناضجة ومتزنة، تجمع بين الأصالة الرصينة والمعاصرة المتزنة، وتربط عبق الماضي بهدير الحاضر، وتؤسس لمستقبل شعري جديد تتم فيه إضاءة دروب الإبداع الشعري من أجل تصحيح مسارات المواهب الناشئة.

مكونات المتن

وللاقتراب أكثر من هذا العالم الشعري، سأترك لنفسي فرصة للتحاور مع بعض التجارب الشعرية من أجل استجلاء دلالاتها وكشف طبقاتها ومستوياتها الفنية والتسلل إلى مضمراتها وبنياتها الخفية. ولهذا الغرض سأعمل على فتح دفتي ديوان «في خاطري يبكي الحنين»، وهو واسطة العقد في هذا التراث الشعري، ويمثل درجة وعي الشاعر بقضايا ذاته الفردية والجماعية، كما يمثل مستوى استجابة الشاعر لنداءات الحاضر العربي ومدى تفاعله مع مستجدات الواقع المحلي والإقليمي والعالمي.

شعرية العنوان

تنطلق هذه القراءة من عتبة العنوان التي تعد من أهم المناطق في تشكيل نسيج الإبداع الشعري. يستوقفنا العنوان كمنبه دال على ما يتضمنه المنتج الشعري، ويستدرجنا من خلال حمولته الدلالية نحو اعتقاد متسرع وانطباع سطحي، وذلك حينما يدفعنا إلى إصدار أحكام مسبقة قد تكون بعيدة عن حقيقة المادة الشعرية، فنضطر إلى تصنيف هذا العمل الشعري تصنيفا خاطئاً لا يحيط بحقيقة متنه ولا يستوعب إحالاته وقضاياه. ولكن تخطي عتبة العنوان والولوج إلى الفضاء الشعري يصيب القارئ حتماً بالإحباط ويسبب تكسيرا لأفق انتظاره، وذلك حينما يجد نفسه ضحية لتضليل عنواني مخادع. إن العنوان المتسيد المتربع على صفحة البوابة الرئيسية ذو دلالة محدودة لا تعكس حقيقة المادة الشعرية، ولا تترجم تنوع المتن الذي يسكن بين دفتي الديوان. ومع ذلك فقد أصبح هذا العنوان مفتاحاً سحرياً لفعل القراءة، إذ لا يمكن اختراق حواجز وسدود هذا الديوان إلا بامتلاك ذلك المفتاح وتوظيفه كمنطلق لقراءة المادة الشعرية وكأداة للدخول إلى ثنايا النصوص. فهذا العنوان على رغم دلالته الجزئية التي ترتبط ببعض محاور الديوان، فإنه، من حيث بنيته الفنية والدلالية، له اتصال بالتجربة الشعرية ككل، يلخصها ويرمز إلى أبعادها. إنه يعبر عن أهم مضامين التجربة الشعرية، ويعلن عن هويتها، ويكشف عن جانب من الرؤية الشعرية التي تحكمت في الممارسة الشعرية. ولهذا تصبح مشاركة القارئ التأويلية لهذا العنوان عملية ضرورية لدخول عالم الديوان.

إن بناء هذا العنوان بهذه الصيغة التركيبية وبهذه الحمولة الدلالية وبما له من مقومات إيحائية وجمالية نابع من استراتيجية تجعله معادلاً رمزياً للعمل يلخص مدارات التجربة، بحيث يصبح نصاً إضافياً وموازياً للمنتج الشعري. فهو نص منفتح على الحياة الإنسانية في شقها العاطفي، يرسم صورة حزينة لذات رومانسية استبد بها الحنين والشوق، وسكنتها الذكريات ونداءات الماضي الجميل الذي يرفض الانسحاب من الذاكرة، ويمتنع عن التلاشي والغياب مهما طالت الأزمنة واختلفت الأمكنة. يحملنا العنوان إلى المنطقة الجوانية للذات الشاعرة (في خاطري)، إلى طبقات النفس وحناياها، ويكشف عما يموج فيها من أحاسيس مشحونة بالأسى والحزن والحنين. وهناك في قرارات الأعماق يفرض الحنين حضوره بممارسة طقوس البكاء (يبكي الحنين). وهكذا تحيلنا وظيفة العنوان الشعرية إلى داخل المنتج الشعري، وتوجهنا إلى الموضوعة المحورية التي تهيمن عليه.

فحينما يبكي الحنين وتهيج الأشواق في الأعماق، تتحول الذات إلى بركان هائج تضطرب فيه المشاعر والعواطف والانفعالات. وفي هذه الحالة ينبغي البحث عن منفذ أو قناة يتم من خلالها تصريف تلك الانفعالات العاصفة بالذات. وهنا يختلف الناس في نوع القناة المختارة لهذا الغرض. لكن الشاعر تقي البحارنة يصرح بأن قناته المثلى لم تكن سوى حبه الكبير لوطنه. فقد استطاع هذا الحب امتصاص كل انفعالاته وتوتراته، وحولها إلى سكينة وطمأنينة. ولهذا نجد الشاعر قد وضع تصديراً شعرياً في المقدمة بأبيات تبرر اختيار هذا العنوان وتسوغه، وتقدم بياناً وتفسيراً يوضحه، وذلك بقوله:

حتى إذا هاج الحنين

بخاطري، وبكى طويلا

بادرت يا وطـني إليك

فلم تكن عنــي بخيلا

ونهلت حبك موردا

عذبا، وماء سلسبيلا

وحينما نتجاوز هذه العتبة ونلج فضاء هذا الديوان تستضيفنا باقة من العناوين المتنوعة، والتي جعلها الشاعر في ثمانية محاور: الملك القائد، نداء فلسطين، سباق المسافات، أشعار التجار، مراسلات ومداعبات، الألف والسكن، صروف الدهر، أشواق. وكل محور من هذه المحاور تتناسل منه وتتفرع طائفة من العناوين الصغرى التي تعرف بالنصوص وبالمقطعات الشعرية الواردة في الديوان. وقد حظي المحور الخامس بالنصيب الأوفر من هذه النصوص (18 عنواناً). وتفيدنا هذه المحاور في استجلاء البنية الموضوعاتية لهذا الديوان وفي تبيين المضامين التي قاربها هذا المتن الشعري. وتستوقفنا ظاهرة التنوع إلى درجة تجعلنا نبحث عن الخيط الرفيع الرابط بين تلك المحاور. والحقيقة أن محاور هذا الديوان وتعدد العناوين الفرعية وتنوع اتجاهاتها ودلالاتها يعكس بشكل كبير الشخصية الواقعية للشاعر ويترجم اهتماماته وارتباطاته ومسئولياته. فاستحضار سيرة الشاعر الذاتية واستعراض تجاربه الحياتية يفسر لنا حقيقة هذا التنوع في المادة الشعرية.

العدد 3871 - الجمعة 12 أبريل 2013م الموافق 01 جمادى الآخرة 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً