العدد 3878 - الجمعة 19 أبريل 2013م الموافق 08 جمادى الآخرة 1434هـ

شعرية الخطاب في ديوان البحارنة «في خاطري... يبكي الحنين» (3)

تعد قراءتنا لشعر محمد تقي البحارنة، من خلال معرفتنا بصاحبه، مدخلاً ضروريّاً للإحاطة بالملامح العديدة لشخصية المبدع وبمضامين الرؤية الشعرية الموجهة لهذا الحدث الشعري. فالمحور الأول (الملك القائد) هو بحق عقد بيعة ووثيقة ولاء ووفاء، وصورة معبرة عن إخلاص للوطن ولعاهل البلاد. وتحت هذا العنوان يترك الشاعر لقلمه المجال الرحب للإفصاح عن حبه وعن تعلقه بملكه. لذلك تتراكم صور المدح وآيات الثناء، وتتعدد عبارات التقدير والامتنان:

عشقتك اسما.. وناديت باسمك.. حتى انتشى مسمعي

وقالوا بأنك فوق التراب.. وقلت بأنك في أضلعي

وعلى هذا النحو درجت قصائده الوطنية، وفيها نجد الاشتغال بالفكرة مقدماً على العناية باللغة الشعرية، حيث يصير الأسلوب خادماً للمضمون. وقد كان الشاعر محرجاً ومضطرّاً إلى ركوب هذا المركب الفني. إذ كان يحلق بشعره الوطني على مقربة من مخاطبه ومتلقيه، لا يبتعد في سماوات الخيال، ولا يستغرق في طقوس استدعاء الصور ونسج الإيحاءات، ولا يتكلف في اصطياد أرقِّ الكلمات وبديع العبارات. توجهه في ذلك طبيعة السياق التخاطبي ويضغط عليه شرف الموضوع، فيستسلم عن وعي وبطواعية لإملاءات اللحظة الشعرية. كما نجده أحياناً مطالباً بالتجاوب والتفاعل الإيجابي مع بعض المناسبات والأنشطة الملكية والأميرية. ولهذا جاءت قصائده لتؤدي وظيفة الإطراء والثناء على بعض الفعاليات، ووظيفة التوثيق لتلك الأنشطة، وذلك بأسلوب التهنئة الرسمية:

من سواها أحق بالتكريم

وهي أم لمعسر ويتيم

أنشأت أول الحضانات للطفل

وشادت مراكز التعليم

وأقامت جمعية الطفـل والأم

على خير مستوى التنظيم

وفي تهنئة شعرية أخرى يقول:

يا مي يا فخراً لكل متيم

بهوى أوال على مرور الأعصر

محصت في التاريخ زيف رواته

وأبنت ما طمسته كف مزور

وأعدت للإنسان قيمة فكـره

والتضحيات تشع بين الأسطر

أكبرت فيك إرادة لا تنثني

عزماتها، وشعاع فكر نير

وبعد أدائه فروض الولاء ينتفض الشاعر في المحور الثاني (نداء فلسطين)، فيركب حصان العروبة، ويغير مداد الكلمات، ويغمس قلمه الشعري في قلب النزيف العربي، ليرسم بالعبارات والعبرات والدماء مشاهد العدوان الغاشم، ويقف خلف مواكب الشهداء، لينعى الأرواح الطاهرة بقصائد ملتزمة بالقضية، يبث فيها صدق انتمائه إلى عروبته، ويؤكد عمق انشغاله بهموم أمته التي كثرت جراحاتها، وسالت دماء أبنائها في ساحة الأقصى السليب، حيث تصادر الأحلام وتغتال الحرية وتغتصب الحياة.

مهلاً فقد يأتي الفداء بحجة

بيضاء يقطر من جوانبها الدم

تستنهض التاريخ من كبواته

فله لسان والجراح لها فم

في ساحة الأقصى دماء أهدرت

ومذابح ومجازر وجماجم

وصبية عصف الرصاص بحلمها

وعلى المدارج دمية وتمائم

لكن الشاعر، مهما هزت المجازر كيانه ومهما أدمت المذابح قلبه، لا يلتحف بالسواد ولا يردد نشيد الموت. وإنما يصوغ أغنية الشهادة والخلود، ويردد شعار الكفاح والصمود، ويرسم ملحمة النصر القادم بروح واثقة متوثبة عازمة على الثأر حتى تحقيق النصر:

يا صبر أيوب ترفق إننا

شعب يضام وثأره لا يرحم

أملى الطغاة دروسهم ودفاعنا

عن قدسنا فيه الجواب المفحم

تحيا الشعوب بعزم كل مجاهد

بالحق والمحتل حتماً يهزم

طعم الشهادة للشهيد مذاقها

عذب وصاب للطغاة وعلقم

جاءت قصائده الثورية تحية إكبار وإجلال للمرابطين في ثغور الجهاد، تذكي فيهم مشاعر الإباء والعزة، وتحفزهم للصمود في الخطوط الأمامية دفاعاً عن هذه الأمة.

حي الفداء ونبئ الطغيانا

إن الشهادة تخلق الإنسانا

جيل يمر وآخر بـإزائه

يأتي، وكل يفتدي الأوطانا

هي عروة وثقى تقض مضاجعاً

وتدك للمستعمرين كيانا

من يفتدي الوطن الحبيب فإنه

يرسي لعزة شعبه بنيانا

وفي اعتزازه بدماء الشهداء وبجيل المجاهدين، لا ينفك الشاعر عن توجيه رسائله الحادة إلى الغاصب، يتوعده بالثأر القادم، ويدق المسمار في نعش كل طاغية ظالم:

من يغتصب حق الشعوب فلن يجد

وطنا ولا أمنا ولا غفرانا

ويقول متوعدا العدو ومتطلعا إلى الفجر القادم وإلى النصر الزاحف فوق سواقي الدماء وبقايا الأشلاء:

قل لصهيون سوف تروي فلسطين

دماه، كما روت لبنانه

وسنستاف من دماء ضحاياه

كما استاف بادئاً عدوانه

يا فلسطين.. ساعة النصر دقت

ودماء الشهيد خطت مكانه

وغدا موعد مع النصر آتٍ

تتراءى في أفقه إنسانه

ومن علامات التزام الشاعر وارتباطه بالقضايا المصيرية، ما نجده من انتقاد لاذع للحكام ولكل الذين خذلوا أمتهم وهانت عليهم مآسيها، واكتفوا بمشاهدة مسلسل التنكيل والتقتيل والتشريد الذي تعددت حلقاته من دون أن يتحرك فيهم ضمير أو قليل مما تبقى من عزة. فراح الشاعر يسأل عن المخلص المنقذ من أبناء هذه الأمة، بعدما عصفت رياح الظلم بالمراكب، وتخاذل الربان في القيام بالواجب:

يا أمة هانت على حكامها

فأذاقها المتربصون هوانا

هل من فتى يسعى ليجمع أمة

ويضم شملا أو يفك لسانا

ويقول في نص آخر متحسراً على ما آل إليه حال الأمة بسبب عقوق أبنائها. ولهذا ينفجر الشاعر غضباً وسخطاً وهيجاناً كالبركان الثائر، كالإعصار الهادر، تحركه الغيرة والهوية وصدق الانتماء:

أمتي تستباح، وهي بلا حام

فأين الأباة والأحرارُ

كلما ناشدت بنيها وقد حاروا

جواباً، أجـابت الأعذارُ

أمتي لم تمت، ولولا عقوق

من بنيها لعمها استنفارُ

لم تزل رغم ما تكابده، أمّاً

حنوناً، وضرعها مدرارُ

إنها صرخة مدوية في وجه كل متخاذل منتظر متواكل، صرخة ثائرة ترج أسوار القلوب المتحجرة والأفئدة المتصلبة، وتهز كيان البرك العربية الآسنة الملوثة التي امتلأت بنماذج بشرية مشوهة مبتورة الجذور، تتاجر بالأرض والأعراض والأرواح والجثث. تبيع القضية من أجل صورة تذكارية مع خنزير من خنازير العدو، وتكفِّر عن جرمها ببيان إدانة.

وهكذا نجد الشاعر يرسم استنكاره شعراً، ويخط نضاله صوتا مدويا غاضبا، ويرسم المستقبل بأنامل الجيل القادم بعدما تخلف الحكام وشيوخ القبائل العربية، وعجز مريدوهم عن كتابة ملحمة النصر. إننا نجد ثورة عارمة تستبد بالشاعر وتملك كل كيانه، وهي ثورة تترجم المواقف الإيجابية التي وقفتها فئة من النخبة المثقفة في وطننا العربي إزاء ما تراكم من انتكاسات ونكبات وهزائم ومؤامرات. نخبة رائدة ظلت وفية للمبادئ، متشبثة بخيار المقاومة من أجل استرجاع كل حق سليب. وهي الفئة التي وقفت في وجه مهندسي الأزمات وصانعي الهزائم وكل الكراكيز الذليلة الموجهة لخدمة مصالح العدو وحلفائه.

إن الشاعر في أشعاره الملتزمة لم يرفع راية الحزن أو الانهزامية، ولم ينزوِ في زاوية البكاء أو لباس الحداد، ولم يردد شكوى الضعاف وابتهالات المنتظرين للمعجزات، بل ظل يخط الأمل ويلون المستقبل، ظل يذكي نار العزة في النفوس، واثقاً من غد أمته رغم النزيف، متفائلاً مهما طال الليل وعم الظلام.

العدد 3878 - الجمعة 19 أبريل 2013م الموافق 08 جمادى الآخرة 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً