العدد 3894 - الأحد 05 مايو 2013م الموافق 24 جمادى الآخرة 1434هـ

مصائبُ قومٍ عند قومٍ فوائدُ

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

حَدَّث أحد رجال الدِّين أنه وبعد أن انتهى من الصلاة بالناس جماعة في إحدى الأيام، رَفَعَ يديه إلى السماء وقال: الحمد لله الذي خَفَّفَ علينا قَيْظَ هذا العام، فلم يجعله حارقاً لأبداننا الضعيفة. فاعترَضَتهُ امرأة بعد أن قامَ مِنْ مجلسه وقالت: بل قُلْ ليتَ السماء قد لهَّبَت من حَرِّنا، فأحرق أجسادنا، وأذاب لحومنا، وهَدَّ من أكتافنا، وصحَّر رؤوسنا، فذقنا صميمه فذلك أجدى وأرحم!

فتعجَّب الرجل من قولها وسألها عن سبب دعائها هذا فقالت: إن زوجي يَكدَحُ في إصلاح مُبرِّدات الهواء (Air conditioners). وفي موسم القَيْظِ الماضي وبسبب قلة حرارته، والمناخ المعتدل الذي صاحَبَهُ، فقد قَلَّت مَعاطب المُبرِّدات، فلم يعد يقصده أصحابها، الأمر الذي أثَّر على دخلنا الشهري، بعكس السنة التي قبلها، حيث كان الصيْف لهيباً، والناس تأتينا زرافات!

هذه الحادثة حقيقية بالكامل. وقد سَرَدتها (بتصرف لغوي لا أكثر) استهلالاً لما أروم التطرق إليه. ورغم أن الحادثة فيها مَسْحَةٌ من الطرافة، أو قد يحسبها البعض أنانيةً زائدة، إلاَّ أننا نستطيع أن نُجَيِّرها أيضاً إلى حيث نريد، وهو أن وقوع الضّر/ الفرج، قد يكون نافعاً وغير نافعٍ في الوقت نفسه، طبقاً لدرجة وكيفية الاستفادة منه، والأهم من كل ذلك، هو تذكر عجز هذا البيت للمتنبي: مصائبُ قومٍ عندَ قومٍ فوائد! فما هو ضارٌ هنا، قد يكون نافعاً في مكان آخر.

باعتقادي، أن حياتنا ما هي إلاَّ «تجربة». هذه التجربة، تتحوَّل بشكل طبيعي إلى «مثال». وهذا المثال، يتحوَّل أوتوماتيكياً إلى عِظَة. وهذه العِظَة، تتراكم، لتصبح «ذاكرة». وهذا المسار من التجربة وحتى الذاكرة، كفيلٌ بأن يجعل حياة الناس أكثر صواباً وأقلّ زللاً. وقد قال كونراد أديناور وهو أحد أرباب السياسة الألمانية بأن «التاريخ هو مجموع الأشياء التي كان من الممكن تفاديها».

وبتتبع الخطوة الأولى «المثال» يتضح لنا أن منسوب الكلفة فيها أعلى من غيرها، كونَ المثال يكون حصراً في واحدٍ من الناس/البلدان، أو في جزءٍ منها، فيتحوَّلون إلى كبش فداء وعِظَة لغيرهم دون أن يدفع هؤلاء الآخرون أدنى كلفة، وانتهاءً بمرحلة الذاكرة، التي بإمكانها «أن تكون جنة لا يستطيع أحد إخراجنا منها، كما أن بإمكانها أيضاً أن تكون جحيماً لا نستطيع الهروب منها كما قال القِس جون سبالدنغ.

يفتكُ مرضٌ جَوَّالٌ ببلدٍ ما، فيتنبَّه له مَنْ هم في البلدان الأخرى، فيأخذوا حِذْرَهم منه. ويضرب زلزالٌ أرضاً ما، فيَشقها نصفين، ويقضي على حَجَرِها ومَدَرِها، فتتلقف أراضٍ مجاورة ما جرى، فتخلِي الأمكنة نحو السَّيْح، وتعيد قوانين تشييد الجُدُر والأبنية، لتكون أكثر صلابة وأمناً. وقِسْ على ذلك من الأحداث، التي تصيب الدنيا، ويُبتَلَى بها بنو البشر في أحوال معيشتهم.

لكن ومع شديد الأسف، فإن هناك مِن التجارب والأمثال والذاكرة، التي ينصرف عنها البعض، دون أن يعي أنها إحدى الفرص التي وهبتهم إياها السماء وتدافع البشر لكي يأخذوا حِذْرَهم منها، فيفعلوا ما يمنع حصولها، أو يُخففوا من وطأتها عليهم، وبالتحديد دروس السياسة وأزماتها، التي باتت حاضرة في مشرب الرَّعية وراعيها ومأكلهم، فلا تكاد تمر ساعة إلاَّ وهي تحوم حولنا.

تندلع أزمة سياسية في بلدٍ ما فتستفيد من هذا الحدث بلدانٌ أخرى عاقلة، في حين تُمارِيْ بلدان أخرى معتوهة، فتُصرُّ على أن النار لن تأتيها لتحرقها. أقصى ما تقوم به هو اجتراح ما يُكافح تلك النار، في حين أن الخيار الأصوب والمتاح بلا دماء ولا انتهاكات، هو القيام بما لا يُؤدي إلى إشعال النار أصلاً، وبكلفة معقولة، وتؤدي إلى ضمانة صلبة طويلة الأمد.

إن عملية الإصلاحات السياسية الجذرية في الدول ليس بالأمر العَصِي على التحقق، ولا هو خيالٌ لا يمكن استيعابه. فالإصلاح عملية أصيلة في كلِّ شيء، لضمانة ديمومة العطاء. حتى الفتاوى والرؤى الدينية يجري تكييفها وإصلاحها طبقاً لمتطلبات الزمكان، في حين تصرّ بعض النظم السياسية، على المضي بذات العقلية القديمة، التي لن تجلب إلاَّ النفاق السياسي والدَّجل.

ماذا سيستفيد نظامٌ سياسي ما بكثرة المديح والمساحيق اللغوية الكاذبة، في حين، أنه يعلم بأن تحت ذلك المديح هِجاءً فاحشاً، وتحت تلك المساحيق وجوهاً مُكفهرَّة. وماذا سيستفيد نظام سياسي ما باتهام وهمي للخصم مرةً بالخيانة، ومرةً بالعمالة، ومرةً بالإقصاء، ومرةً بالإرهاب، ومرةً بالظلامية، في حين أن الموضوع لا يزيد عن إجراءات تمنع الخيانة والعمالة والإقصاء والإرهاب والظلامية.

ماذا سيفيدك إن أنتَ أقنعتَ نفسكَ بأنك على صواب، وشعبك على خطأ، في الوقت الذي يقول فيه المنطق والعالَم أن الأمر ليس كما تصِف. من غير الصحيح، أن تُدار السياسة بمزاجية أو عبر مصالح ضيقة. فالتفكير السليم يقتضي أن تتسع دائرة المصالح لتتكوَّن من سلسلة مترابطة من العلاقات الاجتماعية والاقتصادية تبدأ من قاع الهرم، صعوداً إلى الأعلى.

وعندما تنعَقِف المعادلة يهتز الكيان بأكمله. فليس من المنطق أبداً، أن يكون نصيب الشعب بأكمله سُعُوطًا واحداً من الثروة، في حين يُخصص الباقي لأقلية أوليكارشية حاكمة، تتصرف وتتنعَّم دون حسيب ولا رقيب. وكذلك الحال بالنسبة لتوزيع الصلاحيات، وأشكال النفوذ، وتكوين مراكز القوى في نواة وأطراف الدولة. فهذه كلها أسباب وجيهة للاستقرار/ الاضطراب.

عندما خاضَت الأنظمة الرجعية معركة سنواتها العشرين ضد الثورة الفرنسية، لم يتحقق لها شيء مما كانت تريده. هي أرادت أن تقضي على تأثيرات التغيير على أرضها، لكنها فشلت. ولم تستقر الأوضاع في بلدانها إلاَّ عندما هي قامت بخلق ظروف الاستقرار، عبر إصلاح البنى السياسية والاقتصادية والثقافية في بلدانها، فَنَجَت من ثورات حمراء كانت لها أكلاف باهظة.

خلاصة القول، أن الدروس أمامنا كثيرة. وليس المطلوب منا أن نبذل من جهود إلاَّ النظر فيها بتمعن. فالسعيد مَنْ اتعظَ بغيره.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3894 - الأحد 05 مايو 2013م الموافق 24 جمادى الآخرة 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 7 | 7:02 ص

      قصه روعه ولله في خلقه شؤن

      قصه روعه ولله في خلقه شؤن
      سبحانك ربي ما اعدلك واكملك ترزق العباد وترحمهم

    • زائر 5 | 5:04 ص

      مطر -لا مطر -رياح -لا رياح -شمس -لا شمس

      الزراع يريد مطر وشمس - صاحب التبن بربد رياح ليفصل التبن عن القمح - والفخار يريد شمس ......... اللهم هؤلاء عبيدك وانت اعلم بمصلحتهم

    • زائر 6 زائر 5 | 10:31 ص

      العلاقة الغريبة

      بعد الزلازل يظهر الماس والذهب

    • زائر 4 | 12:50 ص

      موازين

      ما جاع فقير إلا بما مُتع به غني

    • زائر 3 | 12:29 ص

      تحية

      شكرا

اقرأ ايضاً