العدد 3909 - الإثنين 20 مايو 2013م الموافق 10 رجب 1434هـ

تلك الأمانة يا ولدي

سليم مصطفى بودبوس slim.boudabous [at] alwasatnews.com

-

يأتي على الإنسان إصباح وإمساء... وكلّنا لصروف الدهر نسّاء. لكن، حين تباغتك مصيبة الموت، تغدو الليالي مسرحاً للتفكير العميق في هذا الدهر، وهذه الصروف وهذا الإنسان فلا مجال للنسيان.

أمّا الدهر، فموجزه مسيرة عُمُر إنسان فردٍ، وتفاصيله مسيرة عُمُر البشريّة جمعاء؛ يركب الإنسان الفرد خلالها القطار، ولا يدري في أيّ محطة سوف ينزل، ولكنّه سوف ينزل. فماذا هو آخذٌ معه؟ وماذا هو تاركٌ خلفه؟ ذلك هو السؤال.

وأمّا الصروف، فهي ما ينزل بالإنسان من النكبات والمصائب الثقال ممّا قد يدكّ الجبال دكّا، ولكن الإنسان الفذّ وليس كلّ إنسان، قد يصطبر ويعتبر، ويعيد البناء على أقوم الأسس فينتصر.

وأمّا الإنسان، فطويلا ما نازل الدهر وما انتصر، وقاوم الصروف طول العمر، ولكنّه ما تراجع يوماً ولا انكسر. وهنا عظمته؛ عارفٌ بالنتيجة، مقاومٌ بالعزيمة: كذلك رأيته أبي لحظة الوداع الأخير والسلام الأخير وكأنّه يحدّثني فيقول: «عشت يا ولدي دهراً حتى بلغت العقد العاشر، وصارعت الصروف وقامت الظروف ولم أشك يوماً الحظ العاثر، وكافحت وكافحت حتى انتصرت ولكنّي أمام الموت قد انكسرت.

يا ولدي، هي لحظةٌ تتجرّع فيها أنت مرارة الفراق ولكنّي أعيش معها حلاوة اللقاء.

يا ولدي علّمتني الحياة أن لا أستسلم رغم الشقاء وشدة العناء ووطأة البلاء. هكذا عرفتَـني، وسمعتَ عنّي أنّي لم أستسلم رغم قلّة الحيلة وبساطة الوسيلة، لم أستسلم إلاّ لإرادة الله حين اختارتني عنده.

يا ولدي، علّمْ أولادك الصدق والقوّة واغتنام فترة الفتوّة. يا ولدي علّم أولادك حبّ العمل، والسعي والأمل، والصبر على المحن.

يا ولدي أرأيتني والأوجاع تصارعني، والآلام تعتصرني، والفراش لا يحتملني؟ أرأيتني والبسمة لا تفارقني لأني وبكلّ قوة كنتُ على الآلام منتصراً، وعلى إسكان أوجاعها مقتدراً، وعلى كل الأقدار مصطبراً.

كذلك كنت في حياتي كلّها، كذلك كنت في رحلة كفاحي، تلك اللحظات الأخيرة تلخص حياتي: أدرك النصر أوقاتاً بصبري واجتهادي والسعي في العمل بلا كلل ولا ملل، وتدركني الهزيمة أحياناً فما تزيدني إلا إصراراً على الكفاح وسعياً حثيثاً وراء النجاح.

يا ولدي كن كما أبيك بنّاء: ألا تذكرُ كمْ من البيوت شيّدتُ ليسكن الخلق وينعموا برغد العيش؟ ألا تذكر من المنازل المتداعية رمّمتُ وكم من الجدران والأسوار بنيت ورفعت؟

يا ولدي... أكمل مسيرة البِناء؛ ألا ترى المدارس التي بنيتُها لتحتضن آلاف الطلاب ورواد العلم ها قد جاء دورك لتكمل مهمة البناء: بناء الأجيال بناء العقول. تلك الأمانة يا ولدي وأعظِمْ بها من أمانة! أحَمِّـلكَها فلا تبخل فيها بجهدك على أحد.

تلك الأمانة يا ولدي نتداولها صباح مساء، وعلى الرغم من صروف الدهر لا، لا تكن لها نسّاء.

تلك الأمانة يا ولدي، ولا فخر، لا يحملها إلاّ العظماء مِمّن يبغون الخلود بما يتركونه من أثر: ها إنّ آثاري شاهدةٌ عليّ بما بنتْ وشيّدتْ يداي. ها إنّ بنياني لا ينكره أحد، فهل فكّرت في بنيانك وآثارك قبل أن تصل إلى محطتك فتنزل، وما تركت خلفك آيةً على فعلك؟

تلك الأمانة يا ولدي لا تفرّط فيها أو تتكاسل عن القيام بها، قبل أن يأخذ المولى عزّ وجلّ الأمانة فتندمَ ولات ساعة مندم. تلك الأمانة يا ولدي آه لو تعلمون عظيمة.

إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"

العدد 3909 - الإثنين 20 مايو 2013م الموافق 10 رجب 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 7 | 3:42 م

      لكل إنسان رسالة

      عندما يؤمن كل إنسان مهما كان بسيطا بأن له رسالة فذلك في حد ذاته أمر عظيم
      نرجو أن يؤمن الشباب بأنّ له رسالة وأمانة

    • زائر 6 | 6:40 ص

      إلى الزائر 4

      فلتقل خيرا أو لتصمت وشكر الله سعيك

    • زائر 5 | 3:28 ص

      رحم الله والدك

      تلك الأمانة يا ولدي نتداولها صباح مساء، وعلى الرغم من صروف الدهر لا، لا تكن لها نسّاء.

    • زائر 4 | 2:17 ص

      عليكم من أنفسكم أول ما تحتاج صيانه نفسك

      ليس من الأسرار أن الله كرم بني آدم و خلق النفس المحترمة وليست النفس البنائه أوالهدامه، فاهدم والبناء للأجسام مثلا. أما النفس البشرية فقد تكون لوامه أمارة بالسوء و.. و..
      فنفس الانسان أمانته جعلها الله أمانه في عنقه وعليه إحترامها وتهذيبها ورعايتها ...و .. فأين أمانتك قد أخذتها تفسحها أم تفسخها وتعمل منها فسيخ بالصعيدي؟

    • زائر 3 | 1:13 ص

      واجب الأمانة

      أشكرك على تحويل موضوع فيه كثير من الجانب الذاتي إلى موضوع إنساني
      حقا الأمانة هي سلوك مستند إلى قيم ومبادئ

    • زائر 2 | 1:04 ص

      يا غافلا لا تنس

      يأتي على الإنسان إصباح وإمساء... وكلّنا لصروف الدهر نسّاء

    • زائر 1 | 12:52 ص

      رحم الله والدك

      عظّم الله أجركم أستاذ سليم
      فعلا كم هي عظيمة هذه الأمانة

اقرأ ايضاً