العدد 3939 - الأربعاء 19 يونيو 2013م الموافق 10 شعبان 1434هـ

جنازات الأَمَنَة ولُحُود السُّرَّاق

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

في عالَمِنا أثرياء سُرَّاق. ينهبون. يُقامرون. ويأكلون ما لهم وما لغيرهم. ويُنازعون الفقير، ويَصّرون ما عنده. يلعَقون لِحَاء الشجر من شِدِّة حرصهم، ويُخادنون الأشَر في سبيل الدرهم، ويُنادمون السَّمَندَل، وأجواء الغَسَق الأرجواني، لذا، فهم وبهذا الظلم والترَف قد فقدوا كلَّ حِسٍّ إنساني.

وهناك في عالمنا فقراء أمناء. بطونهم خاوية. وحلوقهم عطشى. ينامون على حَسَكِ السَّعدان، ويتوسَّدون الصَّقِيْل، ويلبسون ما يستر بالكاد، فلا يقيهم شَفِيْفُ الريح، ولا يمنع عنهم لهيبها. ليس لديهم أكثر مما عندهم، ثم تنقضي حياتهم في التمنيات كما قال غابرييل غارسيا ماركيز.

هذا التقسيم الاجتماعي/ الإقطاعي وإن كان جائراً ظالماً إلاَّ أنه سَمْتٌ مَضَت وانتظمت عليه تناقضات البشرية منذ القِدَم، وذكرته أسفار التوراة والإنجيل والزبور والصحف، وجاء في الآيات الكريمة للقرآن الكريم. بل حتى الديانات الأرضية، تحدثت هي الأخرى عنه أيضاً، وصار جزءًا من النظام الأخلاقي للبشر (خيراً وشراً). لذا، فهو ليس بالشيء المستغرب أن يكون قائماً في حياة الناس (كغيره من السوءات والمنبوذات) رغم أنه مُستَهجَن.

إلاَّ الغريب في الموضوع، هو انعدام الميزان الأخلاقي والاجتماعي السليم في النظرة إلى السِّماطيْن المذكوريْن. فمن العجب أن يحظى السُّرَّاق، بتكريمٍ من الأقلام والألسن. ويُقام لهم في المجلس. ويُتنَحَّى لهم في الطريق. وتُجَهَّز لهم المتكآت. وتُجَلَّل لهم المفارش، وتُنصَب لهم الخِيم. وعندما يموتون، يحجُّ الناس إلى عزائهم، وتُنشَد فيهم الأشعار، ويُقال فيهم الكَلِمُ الحسن، وكأنهم أولياء!

أما الفقراء أصحاب الأمانات، الذين لم يجنحوا للسَّرقة، ولم يُوقِعوا الناس في ظلم، ولم يعيشوا على آهات البشر، فهم لا يحظون إلاَّ بشُموخ أنوف المارَّة عليهم. فلا يُصَدَّرون في المجالس، ولا يُذكَرون في المحافل. ولا يُثَنَّى على حديثهم حتى ولو كان دُرَراً، وكأنهم وزنٌ زائدٌ عن الحاجة. وعندما يموتون، بالكاد يجدون مَنْ يرفع جنازاتهم، أو من يُنزِّلهم في لحودهم، ويُعزِّيهم وكأنهم هم السُرَّاق، وأولئك المترفون الناهِبون هم الفقراء وأصحاب الطُهر!

هذا الأمر، عاينته غير مرة. فحين تذهب إلى تأدية واجبٍ في عزاء فقير راحل، كان قد بَلَغَ من العُمر عِتِيَّاً، ولا تظهر صوره في القراطيس، ولا يُذكر اسمه على المنابر، لا تجد في محضره إلاَّ اليسير من الناس. والعكس صحيح، حين ترى الناس وهي تأتي من المشرق والمغرب، لتحضر عزاءً لأحد السُّراق المترفين، حتى لتحسب أن ما هم فيه ليس بعزاء، من كثرة مَنْ يأتون، وهم مُجلَّلون بالثياب الحريرية، والأطياب الفوَّارة، فيصبح ذلك العزاء مكاناً للتباهي وعقد الصفقات.

تُرى، ما الذي يجعل السُّرَّاق يُذكَرون، والفقراء يُنسَوْن؟ متى أصبح الناهبُون أجلاء مُحترمون ومُكبَرون في أعين الناس، ومتى أصبحت الفاقة والفقر، مدعاةً للاحتقار والبُعاد، وقلَّة في الشأن؟ إنها فعلاً هزَّة في نظام الأخلاق، وانحرافٌ بيِّنٌ في التفكير وتبدُّلٌ في النظرة إلى الأشياء. وربما كانت هذه إحدى أهم زوايا وملامح المجتمعات الإقطاعية، التي سادت العالم طيلة قرون خَلَت.

إذا كان النهبُ والسرقة، وذهاب الخلق، وعدم الإحساس بالضعفاء والمحتاجين، هي أشياءٌ مذمومة حتى في دواخل النفس البشرية، فضلاً عن قوانين الحياة وفلسفتها، فلماذا يعمل المرء بخلاف طبيعته وعكس ما اقتضته علوم البشر؟ وإذا كان الفقر والعَوَز، من الأشياء التي تقتضي التراحم والرأفة والسؤال عن الحال ومَدّ العون، فلماذا يُنظَر لأولئك الفقراء بدُونيةٍ واستخفاف.

إن من أكبر الأمراض الاجتماعية والأخلاقية، النفاق. لكن ما يزيد ناره أواراً وخطراً، هو عندما يُضَمُّ إليه عنصر التمييز، وتكريس الطبقية الاجتماعية على أساس مادي، فيصبح الناس على منازل عدة، لا يحكمها العلم ولا النزاهة ولا الأخلاق الحميدة، وإنما الثياب إن كانت رثّة أو فارهة، والأكل إن كان طبرزداً أو شعيراً، والسكن إن كان داراً مهترئةً أو بيتاً ذا أسوار عالية لامتناهية.

لقد ذَكَرَ لنا التاريخ، أن كثيراً من العظماء، كانوا خيراً على البشرية. ألَم يكن هرمن هيس فقيراً؟ ألَم يكن لوب دوفيكا وبابلو نيرودا فقراء؟ ألَمْ يتعلَّم جيمس وات وتوماس تلفورد ولودن ماكادم وجيمس مِل عند أقل البشر مكانة اجتماعية حينها وهم الاسكوتلنديين الكالفينيين؟ هذا هو تاريخ البشرية الحقيقي، وأوزان البشر الفعلي.

وربما كفتنا السيدة سميث عندما قالت تعبيرها الجميل والدقيق بأن «الفارق بين الأغنياء والفقراء هو أن الفقراء يفعلون كل شيء بأيديهم، أما الأغنياء فيستأجرون من يؤدي لهم». والحقيقة، أن الفارق هنا (ضمن هذا التعريف) بين الفقراء والأغنياء، هو فارقٌ ميكانيكي صرف، ليس للعدالة ولا للخلق دخلٌ فيه.

صحيح أن لقمان الحكيم قال «حَمَلتُ الجَنْدَلَ والحديدَ وكلّ شيءٍ ثقيلٍ فَلَم أحمِلْ شَيْئاً هو أثقلُ من جارٍ السوء، وذقت المرار فلم أذق شيئاً هو أمرّ من الفقر»، لكن لقمان لم يذم الفقر، بل كان يتحدث عن المعاناة الذاتية للمرء، فلا منقصة بسببه ولا مسبَّة. لذا، رأينا أن الإمام علي بن أبي طالب قال «إن أغنى الغنى العقل، وأكبر الفقر الحمق، وأوحش الوحشة العجب، وأكرم الكرم حسن الخلق».

إن معركتنا الحقيقية اليوم، هي ليست في شيء أكثر من القيم، ومعرفة المفاهيم الصحيحة، والتفكير القويم، المؤدية كلها إلى الأخلاق. ذلك النظام الذي وَحَّد البشر، على أساس التعامل الإنساني والخير والشر.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3939 - الأربعاء 19 يونيو 2013م الموافق 10 شعبان 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 11 | 12:30 م

      روى عن النّبي (ص) هذا الدّعاء : اَللّـهُمَّ اَدْخِلْ عَلى اَهْلِ الْقُبُورِ السُّرُورَ اَللّـهُمَّ اَغْنِ كُلَّ فَقير، اَللّـهُمَّ اَشْبِعْ كُلَّ جائِع

      اَللّـهُمَّ اكْسُ كُلَّ عُرْيان، اَللّـهُمَّ اقْضِ دَيْنَ كُلِّ مَدين، اَللّـهُمَّ فَرِّجْ عَنْ كُلِّ مَكْرُوب، اَللّـهُمَّ رُدَّ كُلَّ غَريب، اَللّـهُمَّ فُكَّ كُلَّ اَسير، اَللّـهُمَّ اَصْلِحْ كُلَّ فاسِد مِنْ اُمُورِ الْمُسْلِمينَ، اَللّـهُمَّ اشْفِ كُلَّ مَريض، اللّهُمَّ سُدَّ فَقْرَنا بِغِناكَ، اَللّـهُمَّ غَيِّر سُوءَ حالِنا بِحُسْنِ حالِكَ، اَللّـهُمَّ اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ وَاَغْنِنا مِنَ الْفَقْرِ، اِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيء قَديرٌ .

    • زائر 9 | 7:40 ص

      تذكروا من القائل

      كل يا كُمي

    • زائر 7 | 4:11 ص

      نعم هذا تفشى

      نعم انتشر بعد احداث ثورات الدمار العربي تصحيح لمن يقول ربيع العربي هو دمار العربي طائفين وتكفرين وتدمير الدول بالثورات

    • زائر 8 زائر 7 | 4:51 ص

      بارك الله فيك صادق

      دول الدمار العربي صح

    • زائر 5 | 2:54 ص

      مجنون من عاقل لا وقايلين ليهم الشيطان عدو لا تتخذوه خليل ولا تصادقونه

      تغيب أو تشرق الشمس لكن إنما الامم الأخلاق، بس في واحد كان إيعسعس ولاحظ إن من الامم التي تدب على الأرض، .. وما من دابه .. حيوانات وبهائم من الأمم بس الله كرم الناس وأعطاهم كرامه. إيقولون محشوم لحمار بسم ما يتحرمون الناس مو لأن كبران راسهم وعندهم راس مال أو واحد عند منصب أو تاجر لا وأحسنها أو أسوأسها لا يعرف أرباب عمل. إشلون إيصير رب عمل وراسماله رصيد في البنك ولا عنده ودائع ولا خزائن مثل خزان الخالق؟ مو لأنه مخلوق.. بس لو تجلب الشيطان والناس ما تفكر وتخاصم بعضها بس على عمي. أليسا في عالم لا تشوبه

    • زائر 4 | 2:45 ص

      شطانه أو شطارة ما تعرفها

      ليس عجب ولا غرابه في ها الخرابه وهذه حالة من حالات قد تصيب الناس من زينة الحياة الدنيا. يعني شوي الشيطان شاطر وشويه بنات أفكاره إتشاركه في التخطيط والتخبط كأنه سلطان إبليس متولنه وبعد إتزيد عليهم ها الدعايه والاعلانات التي تزهزه للناس الطريق مو العدل لكن يتبعون الطريق الأعوج ويأخذون بكلام الناس ويتبعون بعض من الناس بعض خطوات الشيطان الى أن لا تعرف من الشيطان أو من عند أنفسهم. بعضهم غيره بعضهم حسد بعضهم طمع وبعضهم جشع.. يعني ما تعرف ليهم مرضا أو مو مرضه غرتهم الدنيا أو أغرتهم مو مغرياتها واجد؟

    • زائر 3 | 2:22 ص

      بوركت امٌ انجبتك ...

      يا الهي مقالك مفعم بالإحساس ، جميل حين يكتب الإنسان من قلبه ، فما يخرج من القلب يدخل الى القلب بلا استئذان شكراً لك على الأحاسيس التي وهبتني اياها.

    • زائر 2 | 2:08 ص

      للأسف هذا هو النظام السائد في البحرين

      هذا هو النظام السائد في البحرين اليوم. اصبحت قيمة الانسان بما يملك من دنانير ومظاهر.

    • زائر 1 | 1:09 ص

      من أروع ما قرأت في أوراق التقويم الهجري ,,,,

      يمشي الفقير وكل شيء ضده والناس تغلق دونه أبوابها
      وتراه مبغوضاً وليس بمذنب ويرى العداوة لا يرى أسبابها
      حتى الكلاب إذا رأت ذا ثروة خضعت لديه وحركت أنيابها
      وإذا رأت يوماً فقيراً عابرا نبحت عليه وكشرت أنيابها

    • زائر 6 زائر 1 | 3:49 ص

      هذا الشعر رأس حيان الثروة السكية

      هذا الشعر نسمعه من موظفين ادراة الموارد البحرية العاملين مركز الاستزارع البحري التابع للثروة السمكيه _ منطقة عسكر رأس حيان لا اعرف هل اصابهم اليأس من الحياة او الملل

اقرأ ايضاً