يحيي كثير من المسلمين ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان من كل عام «ليلة القدر» بالقيام والدعاء والتقرب إلى الله تعالى، كونها من الليالي الجليلة القدر عند المسلمين، ففيها أنزل الله تعالى القرآن على سيد البشرية محمد (ص) وجعله بشيرا ونذيرا للناس وهادياً وسراجاً منيراً. وإن اختلف المسلمون على أي الليالي هي ليلة القدر تحديداً، فإن رسول الله (ص) آثر ألا يحددها بنص واضح، وتتواتر أكثر الروايات أنها في ليلة وترية من العشر الأواخر من رمضان الفضيل، أي أنها قد تكون في الليالي 21، 23، 25، 27 أو 29، وإن أجمعت طائفة كبيرة من جمهور علماء المسلمين على أنها ترجّح في ليلة السابع والعشرين من الشهر، وبالتالي يجتهد المسلمون في بقاع الأرض على تحريها في العشر الأواخر بالزيادة في الصلاة والدعاء والتقرب إلى الله تعالى بالطاعات وقراءة القرآن الكريم والاجتهاد في تأدية العبادات والنوافل.
وقال الشيخ محمد بن محمد المختار الشنقيطي (رحمه الله): «أخفى الله ليلة القدر وهذا لحكمة منه سبحانه وتعالى». وقال العلماء: «وهذا الخفاء كي يجتهد الناس في الطاعة فلا يقتصرون على ليلة من بين الليالي، ولا يجعلون طاعتهم مقصورة عليها، فإذا علموا أنها في العشر الأواخر اجتهدوا في العشر الأواخر كلها، وهذا هو مقصود الشرع المراد به إحياء الليالي كاملة، وعلى هذا فإن الأفضل أن يحرص على قيام ليالي العشر لما ثبت عن النبي (ص) أنه اعتكف العشر الأواخر من رمضان، والوتر أأكد (أي أن الليالي الوترية أكثر تأكيدا) . وذلك لنص النبي (ص)، وللعلماء في الوتر وجهان:
فمنهم من يقول: «الوتر بعدد الشهر فيبتدئ بالليلة الحادية والعشرين، ثم بعدها ثلاث وعشرين ثم بعدها خمس وعشرين ثم بعدها سبع وعشرين ثم بعدها تسع وعشرين». وقيل: «الوتر لما بقي من الشهر فيشمل ذلك ليلة ثمانٍ وعشرين لأنها تبقى بعدها ليلة واحدة، ويشمل ذلك ليلة الثلاثين وليلة الثماني والعشرين وليلة ست وعشرين وليلة أربع وعشرين وليلة اثنتين وعشرين، وذلك بسبب كون الباقي وتراً إذا نظرت إلى العدد»، ومن هنا قال العلماء: إنها تشمل الأوتار والأشفاع لاحتمال النص لأن النبي (ص) قال: «في ثالثة تبقى، في خامسة تبقى» والثالثة التي تبقى هي ليلة ست وعشرين، والخامسة التي تبقى هي ليلة أربع وعشرين، وقس على هذا.
فمن هنا قال العلماء: «شمل الأمر بالوتر ما بقي وشمل عدد الشهر»، ومن هنا بقيت محتملة للعشر الأواخر كلها. وأقوى الأقوال: «إنها تنتقل»، وذلك لأن النصوص قوية جداً في إثبات ليلة الحادي والعشرين، وإثبات ليلة السبع والعشرين، ولذلك لا يمكن التوفيق بين هذه النصوص إلا بمسألة الانتقال، وهذا قول جمع من السلف وجمع من الأئمة؛ لأنه لا يمكن الجمع بين هذه النصوص إلا على هذا الوجه، مع أن هناك بعض الأدلة يقوي ليلة خمس وعشرين، وهناك بعض الأدلة على إحدى وعشرين، وهذا ثابت في الصحيح. وليلة سبع وعشرين وهو أأكدها وأقواها لورود كثير من الأدلة عند طائفة كبيرة من المسلمين، فدل هذا على وجود مسألة الانتقال، والمسلم يتحرى هذه الليلة ويحرص على قيام العشر الأواخر طلباً لفضيلتها، ولا شك في أن الله سبحانه وتعالى يختص بفضله من شاء، وإذا حسنت نية الإنسان وصدق مع الله، فإن الله يصدق معه.
وورد في شرح كتاب «زاد المستقنع»: «وأوتاره أأكد وليلة سبع وعشرين أبلغ»، وورد في الحديث : «التمسوها في الوتر من العشر الأواخر».
وقيل إن في عدم تحديد ليلة القدر إن لله في هذا الأمر حكمة بالغة، فلو علم الناس ليلة القدر لأهلك بعضهم بعضاً بالدعاء، ولتسلط السفهاء بمسائل الدنيا وحوائجها، وكذلك خمل الناس عن إحياء العشر الأواخر، والعناية بغيرها، فمن حكمة الله سبحانه وتعالى أنه جعلها مخفية، وقد أطلع الله نبيه (ص) عليها ثم رفعت، وسبب رفعها: أنه تلاحى رجلان وهما أبيّ وأبي حدرة الأسلمي (رضي الله عنهما). فلما تلاحيا (أي حصلت بينهما الخصومة داخل المسجد في الدَّين)، كشف النبي (ص) الستار من قبته التي كان يعتكف فيها، فأمر (ص) بالوضع من الدّين وأمر المديون أن يقوم بالقضاء. وقال لأصحابه: «أُريتُ ليلتكم هذه فتلاحى رجلان، فرفعت، وعسى أن يكون خيرا» أي عسى الله أن يجعل الخير في رفعها، ويقول بعض العلماء أنه - ولا شك - في رفع الليلة خير عظيم، إذ صرف الله عز وجل الناس إلى الاشتغال بإحياء الليالي العشر وهذا أعظم في أجورهم إلا أن الإنسان إذا أحيا ليالي العشر كاملة فلا شك في أنه مصيب لليلة القدر، وأنه سينال هذه الفضيلة بلا إشكال لنص النبي (ص) على كونها داخل العشر.
وسئل بعض العلماء عن ليلة القدر هل تُرى بالعين، وهل لها علامات فقال: قد ترى ليلة القدر بالعين لمن وفقه الله سبحانه وذلك برؤية أماراتها، وكان الصحابة رضي الله عنهم يستدلون عليها بعلامات ولكن عدم رؤيتها لا يمنع حصول فضلها لمن قامها إيمانا واحتسابا، فالمسلم ينبغي له أن يجتهد في تحريها في العشر الأواخر من رمضان كما أمر النبي (ص) طلبا للأجر والثواب، فإذا صادف قيامه إيمانا واحتسابا هذه الليلة نال أجرها وإن لم يعلمها قال (ص) : «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه»، وفي رواية أخرى «من قامها ابتغاءها ثم وقعت له غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر».
وكان النبي (ص) يتهجّد في ليالي رمضان، ويقرأ قراءةً مرتلة، لا يمر بآية فيها رحمة إلا سأل الله من فضله أن يغفر له، ولا بآية فيها عذاب إلا تعوذ، فيجمع بين الصلاة والقراءة والدعاء والتفكر. وهذا أفضل الأعمال وأكملها في ليالي العشر وغيرها.
وثبت عن النبي (ص) ما يدل على أن من علاماتها طلوع الشمس صبيحتها لا شعاع لها، وكان أبي بن كعب يقسم على أنها ليلة سبع وعشرين ويستدل بهذه العلامة، والراجح أنها متنقلة في ليالي العشر كلها، وأوتارها أحرى، وليلة سبع وعشرين أأكد الأوتار في ذلك، ومن اجتهد في العشر كلها في الصلاة والقرآن والدعاء وغير ذلك من وجوه الخير أدرك ليلة القدر بلا شك وفاز بما وعد الله به مَنْ قامها إذا فعل ذلك إيمانا واحتسابا.
وليلة القدر هي ليلة الشرف وعلو المكانة، وهي خير من ألف شهر، قال الله عز وجل: «إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ، تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ، سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ» (سوررة القدر). ويقال إن هذه الليلة لمن وفقه الله لقيامها خالصة له سبحانه خير من عبادة 30 ألف يوم، أي أكثر بقليل من 82 سنة، وكم سيعيش الإنسان في طاعة الله لو فوّت على نفسه هذه السانحة؟
وعن ليلة القدر روي أن عمر بن الخطاب (رض) دعا أصحابه فسألهم عن ليلة القدر فأجمعوا أنها في العشر الأواخر من رمضان، فقال ابن عباس (رض) لعمر: «إني لأعلم أي ليلة القدر هي»، فقال عمر: «وأي ليلة هي؟»، فقال: «سابعة تمضي أو سابعة تبقى، من العشر الأواخر»، فقال عمر: «من أين علمت ذلك؟»، قال ابن عباس: «خلق الله سبع سماوات وسبع أرضين وسبعة أيام، وإن الشهر يدور على سبع، وخلق الإنسان من سبع، ويأكل من سبع، ويسجد على سبع، والطواف بالبيت سبع، ورمي الجمار سبع»، فقال عمر: «لقد فطنتَ لأمر ما فطنا له».
وسُميت ليلة القدر بهذا الاسم لأن الله تعالى يقدر فيها الأرزاق والأعمار وكل شيء في العالم، قال تعالى: «فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» (الدخان:4)، وسُميت كذلك لعظم قدرها وشرفها، ولأنها تكسب من أحياها قدراً عظيماً لم يكن له قبل ذلك، وتزيده شرفاً عند الله تعالى، ولأن العمل في هذه الليلة له قدر عظيم.
وقد خصّ الله سبحانه وتعالى أمة الإسلام بهذه الليلة المباركة، وأخفاها عنهم رحمة بهم، حتى يزيدوا في طاعته بانتظارهم لها وترقبها في العشر الأواخر من رمضان.
وليلة القدر لها علامات تعرف بها، قال رسول الله (ص): «إن أمارة ليلة القدر أنها صافية بلجة، وكأن فيها قمراً ساطعاً، ساكنة ساجية، لا برد فيها ولا حر، وإن أمارتها أن الشمس صبيحتها تخرج مستوية، ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر، ولا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ».
وفي هذه الليلة يكثر نزول الملائكة إلى الأرض، ويكثر فيها نزول الرحمات والعمل فيها خير من عمل ألف شهر، وصيامها وقيامها خير من عبادة ألف شهر.
ومن مأثور الدعاء في تلك الليلة: «اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني» لما روي عن عائشة (رض) قالت: «يا رسول الله... إن وافقتُ ليلة القدر فماذا أدعو؟» فقال(ص) لها: «قولي: اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعف عني».
العدد 87 - الأحد 01 ديسمبر 2002م الموافق 26 رمضان 1423هـ