العدد 4039 - الجمعة 27 سبتمبر 2013م الموافق 22 ذي القعدة 1434هـ

إعادة تعريف الإنسان

ياسر حارب comments [at] alwasatnews.com

أثناء الطريق لحضور اجتماع، قرأتُ تغريدة وضعها أحدهم عن خمس قواعد مهمة لإدارة الشركات. فتحتُ الرابط المُرفق وبدأتُ أقرأ المقال في مجلة «رائد الأعمال» الأميركية الشهيرة. أعجبني وقلت في نفسي: هذا عالمي الحقيقي... لابد أن أركز في عالم الأعمال.

دخلت غرفة الاجتماعات وكان بها مجموعة من علماء الشريعة والأصول مِن المُجددين الذين درسوا المنطق ووظفوه لفهم النصوص الشرعية باعتدال ينم عن ذهن منفتح. دار حديث شيق وعميق حول الحاجة إلى فهم مقاصد الشريعة، وكيف يمكن للأمة الإسلامية اليوم أن تتجنب كثيراً من الفتن والقتل والصراعات لو أن الدهماء كانوا أكثر تَبصُراً، ولو أن كثيراً من دعاة الفضائيات كانوا أقل تسطيحاً للفكر حين يُخاطبون المجتمع، وأكثر تأملاً في النصوص واستنباط آليات لتكييفها مع حال الأمة وحاجاتها. خرجتُ وقد تقزّمت فكرة ريادة الأعمال في نفسي التي حدثتني بأن مجال التجديد الفكري وتهذيب الخطاب الديني هو العالم الحقيقي.

في المساء عدتُ إلى «الآي باد» لأستكمل قراءة بعض كتب التراث الأدبي، وانكببتُ على قراءة المراسلات الفلسفية بين أبي حيان التوحيدي وابن مسكويه، اللذين يُعدان من أجمل الأدباء والفلاسفة المسلمين. فوجدتني أغوص في بحر لا شاطئ له، تلاطمت فيه العبارة الندية مع الفكرة الذكية والمعنى المُحتجب عن قُراء الأخبار العابرة في الصحف والمجلات. راودتني نفسي بعد قراءة تلك السِجالات الأدبية وقالت: عليك أن تركز في الأدب، وتكتب الرواية والقصة. اترك التجارة والخطاب الديني، فالأدب مجالك.

فتحتُ «الفيسبوك» قبل النوم، وبينما كنت أتصفحه ظهر لي إعلان لُعبة جديدة. وكنتُ قد مسحتُ الألعاب من أجهزتي كلها قبل عام حتى لا أشغل نفسي عن القراءة والاطلاع، لكنني وجدتني حينها، ولَعَلّهُ مِن تلبيس إبليس، مُشتاقاً للعب، فحمّلتُ اللعبة على جهازي ولعبتُ قليلاً.

بعد أيام زُرت فاس، المدينة العتيقة، وتعرفتُ على رسّام يُسمِي مرسمه «مغارة علي بابا» حيث تحوي مئات اللوحات الجميلة، ويدرس عنده مجموعة من الطلبة دون مقابل. أراني أيضاً أدوات تصوير وكاميرات أثرية، وكلما هممتُ بشراء لوحة يُصر على شرح تفاصيلها الفنية والتأريخية.

تذكرتُ الكتب التي اشتريتها قبل أعوام عن المدارس الفنية، واشتقت لزيارة المتاحف والمعارض التشكيلية، وكدتُ أقول لنفسي هيّا نعود إلى عالم الفن وعذوبته، لولا أن رسالة طَفَت على سطح هاتفي تُخبِرُ عن مجموعة من المتطوعين انخرطوا في رحلة فضائية إلى المريخ، هي الأولى لبني البشر، وقد لا يعودون منها. فتساءلتُ: ماذا يُريد الإنسان بعد كل ما حققه من كشوفات علمية ومعرفية؟ هل يسعى للتغلب على الزمن؟ أم ان كل ما حققه من رفاه وما حصده من عِلمٍ أصابه بالإحباط لأنه لا يوجد شيء آخر في الأرض يثير لديه غريزة البحث والاستكشاف!

وقبل عودتي إلى دبي، جلستُ على كرسي مطل على بحيرة صغيرة أرمي الحبوب للطيور. تأملتُ في الأحداث التي مررتُ بها والأشياء التي قرأتها خلال أسبوع، فتناهت إلى ذهني كلمات مثل: الحضارة، المدنية، ما بعد الحداثة، الأصول، الهوية، الانتماء، الإنسان الكوني... وغيرها، فتساءلتُ: كيف لنا أن نفهم هذه المعاني؟ كيف لأحدنا أن ينتمي إلى مكان ما وضالته في مكان آخر؟ كيف يتبنى فكرة ما، وهناك ملايين الأفكار الجميلة في هذا العالم؟ كيف يسعى لاكتشاف أسرار المستقبل، وفي الوقت نفسه لا يستطيع عِتقَ روحه من الحنين إلى الماضي؟ كيف لنا أن نستخدم الهواتف الذكية لنقرأ آخر أخبار المركبة الفضائية «روفر» التي تبعث لنا بصور فضائية من المريخ كل يوم، وفي الجهاز نفسه مازلنا نبحث في صراعات المعتزلة والأشاعرة! تذكرت تناقضاتي وتقلبّي مِن شغف إلى آخر خلال سبعة أيام فقط، فقلتُ في نفسي: من نحن وماذا نريد من أنفسنا ومن الحياة؟

وبينما أنا في خضم هذه التساؤلات، فتحتُ مكتبتي الإلكترونية في الآي باد وبدأت أقرأ في كتاب «هذا هو الإنسان» لنيتشه، فقرأتُ: «كان أبي رقيقاً ولطيفاً وعليلاً مثل كائن مهيأ ليكون عابراً لا أكثر، مجرد ذكرى لطيفة عن الحياة أكثر منه الحياة نفسها».

فوجدتني أحن لأن أكون عابراً لا أكثر، فإنسان ما بعد الحداثة يحاول، جدلاً، معرفة كل شيء لأنه مُضطر للتعرض لكل شيء بسبب اتصاله بالعالم أجمع، واطّلاعه على تفاصيل لم تخطر على باله يوماً. لكنه لا يستطيع أن يحكم على الأشياء من منظوره المَدَني الضيق لأنه مُحبَط، وفي الوقت نفسه يسعى لإنشاء حضارة لأنه جُبِل على محاولة ترك أثر قبل رحيله.

لم أكتب هذا المقال لأُعيد تعريف إنسان اليوم، القلق، المُتسائل، الباحث، المُتردد، المُدّعي، الذكي الغبي في الآن نفسه. ولكنني كتبته لأشارككم رحلة البحث والتقصي عمّا نُريده حقاً، فيبدو أننا كُلما أَمْعَنّا في الحياة قليلاً، انتقصنا من إنسانيتنا أكثر.

أكملتُ قراءة الكتاب حتى وصلت إلى هذه الجملة: «غاية الحكمة أن يَتقبّل المرء نفسه كَقَدَرٍ، وألا يرغب في أن يرى نفسه شيئاً آخر».

إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"

العدد 4039 - الجمعة 27 سبتمبر 2013م الموافق 22 ذي القعدة 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 7:05 ص

      الجود والجوة والإناء بما فيه ينضحوا

      ليس سر لكن بر فيقال من البدع الأمريكانية الصنع الإرهاب كما الدعاية والإعلان عن طريق الأفلام والدعوة الى العنف أو الى التجسس والتحسس والغيرة عبر الموضة الفرنسية أو البريطانية أو الإيطالية – بيوت الأزياء يعني وخداع الناس عبر شركات ومشاركات في هدم القيم والمبادئ الأخلاقية. هنا سؤال وليس فيه مسائلة، لما الدعاية والإعلان وذكر المحاسن دون أو نكران المساوئ؟ أليس هذا لا تطابق مقاييس الجودة؟؟؟

    • زائر 4 | 4:41 ص

      هل بعض الناس عاصون أو غير مأذبون أو مهذبون

      ترويض النفس وتهذيب النفس لا تعويدها. هنا يمكن القول أن من الناس من تعود على عادات سيئة مثل النميمة والحسد ولا يغض بصره عن عيوب الناس مع أنه معيوب. فيقال كلك عورات وللناس أعين؟ لكن من الناس قد يجاوز هذه الحدود يعصي ربه بسبب عادة تعودها ويعمل بها دون خوف من أحد لكون المجتمع قد لا يقال فاسد لكنه مبتلى بالغيبة أو بالنميمة أو التجسس أو الحسد (...)

    • زائر 1 | 1:30 ص

      اخي

      اخي العزيز ياسر انت تكتب بثقه لانك عشت الماضي بحلوه ومره ، ولاكن طبيعه الانسان المتفائل يتذكر الحلو ، اما المر فيذكره ليستفيد منه ، اما الذين يكتبون في تاريخ غيرهم فذلك هروب الضعفاء ، والبعض اختار نبش مساوء التاريخ لا لأجل الاستفاده بل ليغطي سواد ماضيه العفن

اقرأ ايضاً