العدد 4069 - الأحد 27 أكتوبر 2013م الموافق 22 ذي الحجة 1434هـ

مرسوم الحريق

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

جميع الدول تقول أنها تحكم بالقانون. وجميعها تدَّعي أن لديها دستوراً. حسناً، هذا الكلام جيد، لكننا لا نعلم ما إذا كان الفعل كذلك أم لا. والحقيقة، أن «جيد» الكلام يختلف في وزنه عن «جيد» الفعل، فـ «فضل الفعلِ على القولِ زينة» كما قال ابن المقفع.

ولأن الكلام قد ارتبط بِلَقْلَقَة اللسان فقط، والفعل لا يتم إلاَّ بجهد العقل والبدن، فإن ثواب الثاني هو الأجدى. لذا، فشلت عديد من الدول في فعلها، رغم طراوة لسانها وحلاوته، ورغم ما تحمله وتُشهِره من قراطيس تتضمن قوانين ودساتير تحفظ الحقوق.

بريطانيا ليس لديها دستور مكتوب، لكنها «مفعَمَة بالحرية وصَوْن الحريات، ومنع الفساد». في دولة أخرى يوجد دستور مكتوب، لكنها «غير قادرة على لَجْم الفساد، ولا على إنشاء مؤسسات ديمقراطية حقة». إذاً، القضية ليست في القوانين ولا في الدساتير بل في جوهر تلك القوانين والدساتير، وفي عمق تطبيقها دون استثناءات ولا محسوبيات.

الدستور هو بمثابة الجسد. تستطيع أن تُجَمِّله ما أمكنك ذلك، لكن لا فائدة تُرتَجى منه إن لم تكن فيه روح، تُحرِّكه بالعمل الصحيح، وتُنطقه بسليم القول، وتُكنِزه بالعاطفة والضمير الحي. دعونا هنا نطرح نموذجاً من حياتنا، لفهم «الطبيعة الكارتونية للقوانين المزيَّفة» لكي نكتشف، أن الادعاء بوجود القوانين لا يكفي لأن يتحوّل هذا البلد أو ذاك إلى بلد ديمقراطي يحترم حقوق الإنسان، ولنا في التجربة النازية قبل سبعة عقود خير مثال.

أدولف هتلر، المنتمي لحزب العمال الألمان الاشتراكيين المعروف بـ «الحزب النازي»، فاز في الانتخابات «الديمقراطية» وحَكَمَ سلطة تنفيذية ائتلافية، مع حزب الشعب الوطني الألماني، لكن تلك الانتخابات لم تمنع من صدور «مرسوم تأهيل» الشهير الذي مَنَحَ هتلر والنازيين حق إصدار قوانين «استثنائية» وبموافقة برلمان «كسيح» لا يجيد إلاَّ العبودية.

أيضاً، أدولف هتلر، كانت لديه جمعية للمحامين، لكن ذلك لم يمنع أن يُصدر النازيون ما يشاءون من القوانين التي تجعل منها جمعية موالية له، بعد إصداره للقوانين «الآريَّة» التمييزية والعنصرية، كوصل أحقيَّة عضويتها بضرورة اشتغال المواطن الألماني بهذا المجال، إلى ما قبل غرة أغسطس من العام 1914، أو بمن شاركوا في الحرب العالمية الأولى.

أيضاً، أدولف هتلر، كانت لديه مؤسسات صحافية وأدبية، ومؤسسات للإذاعة والمسرح والإنتاج الفيلمي، والموسيقى والفن، واتحادات طلابية، لكن تلك المؤسسات لم تكن تعكس حالة مدنية للدولة النازية، كونها لم تحمل مطلقاً بُنية ثقافية حقيقية بقدر ما كانت موالية للعنصرية والديكتاتورية، ما جعلها عالةً على الثقافة نفسها.

أيضاً، كان لدى أدولف هتلر الكثير من التصريحات والقوانين التي تتحدث عن المواطنة وحقوق العمال، لكن ذلك لم يمنعه مِنْ سَنِّ قانون الجنسية الألمانية العنصري، وإصداره لقوانين نورنبرغ العنصرية، فَضَرَب بذلك الوطنية الألمانية في كبدها، بتمييزه المواطنين الألمان، على أساس اللون والدين والعرق.

أيضاً، أدولف هتلر، كان معه شركاء سياسيون ومحافظون وناقدون، آمنوا بمشروع الدولة، والعمل التغييري، لكنه ما لَبِثَ أن قضى عليهم بغدر وغيلة، فأنهى حياة أرنست روم وكورت فون شلايشر غوستاف فو كاهر والعديد من المعارضين، بعد توجيهه تهماً واهيةً لهم، كتدبير انقلاب عليه، ونيتهم تعطيل الحكومة وشق الصف الوطني.

لم يكتفِ هتلر بذلك، بل إنه وبعد الحريق المدمِّر الذي وقع في البرلمان الألماني، استغل هذه الحادثة، كي يُشوِّه خصومه السياسيين في المعارضة، فقام بالضغط على الرئيس الألماني فون هندينبورغ لإعلان حالة الطوارئ، وعُرِفَ حينها بـ «مرسوم الحريق»، حيث سمَحَ للنازيين بالتحكم واللعب في الحقوق المدنية، وسجن المعارضين بكيدية، أو بمحاكمات صورية، بالإضافة إلى سلطة إلغاء القوانين وتعديلها وبموافقة البرلمان «الكسيح».

أيضاً، أدولف هتلر، كانت لديه قوانين جزائية مُنمَّقة، ومتينة في سبكها القانوني، لكن ذلك لم يمنعه من تعديل القانون الجنائي الألماني كي يستطيع خنق معارضيه، ثم تعديل قانون الفلاحة ووراثة الأراضي الزراعية، عبر التشديد على خلو الدَّم النسبي للملاك من أي عِرق غير آري يمتد نزولاً حتى يناير من العام 1800.

أيضاً، أدولف هتلر، كانت لديه أفضل شعارات الحرية والتحرُّر، لكن ذلك لم يمنعه من تشييد العديد من السجون الرهيبة، كسِجن ساكسن هاوسن، ومارتسان، وأوشفيتس، وبوخ نفالد، وفلوسنبورج، وماوتهاوسن، وجروس روسن، وغيرها من السجون، التي احتوت على أبرياء، قُتِلُوا على مذبحة «الحرية النازية» المرفوعة الزائفة.

أيضاً، كان هتلر والنازيون، قد أسَّسوا المنظمة اليهودية الألمانية، والمعرض اليهودي في ميونيخ، لكنهم لم يمنعوا من أن يُسجِّل التاريخ قسوتهم على اليهود، والأفارقة، والغجر، والمثليين، والمعاقين جسدياً، وأصحاب الأمراض الوراثية، وما أسمتهم الدعاية النازية بغير المتحضرين في معيشتهم، وبغير الراغبين في العمل بشكل جنوني.

هذا النموذج جليٌ أمامنا. كل ديكور الدولة المدنية وحفظ الحقوق، من قوانين ودستور ومؤسسات، كان موجوداً في ألمانيا النازية، لكن فعل الحقوق، وسطوة الدستور، وحيوية المؤسسات الدستورية والرقابية كان غائباً بالمطلق، لأن المسافة بين القول والفعل هي ببعد السماء عن الأرض! هذا هو بيت القصيد فيما نقوله.

اليوم، يستطيع أي بلد أن يصدح بصوته في القنوات الفضائية، ويكتب ما يشاء في صحافته الصفراء، عن احترامه للقوانين وحقوق الإنسان، لكن ما يجب عليه إدراكه، أن المعيار السليم لا يكمن في تلك الشعارات، بل في عدم وجود انتهاكات لحقوق الناس، وبوجود نظام رقابي يعاقب على الفساد، وبعدم وجود طبقات في المجتمع، بين أبناء الذوات، والفقراء المعدمين. أما غير ذلك، فهو لا يعدو كونه مزيجاً من الهراء والدَّندَنة الممجوجة.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4069 - الأحد 27 أكتوبر 2013م الموافق 22 ذي الحجة 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 6 | 8:21 ص

      متابع

      نرجوا من الكاتب القدير أن يكتب لنا مقالات تتناول الأمور التالية : 1- قضية النفط الصخري في أمريكا و تأثيرها على امريكا اقتصاديا و على علاقاتها الاقتصادية و السياسية مع العالم و الدول النفطية بالأخص ، وأخص من ذلك الخليج ( هل صحيح أنها ستتخلى عن الخليج قريبا بسبب ذلك ؟ ) ...... 2- سوريا : الواقع الميداني ، أين تسيطر المعارضة تحديدا و أين يسيطر النظام ؟ بغض النظر عن التهويل الاعلامي لكلا الطرفين ، و أيضا من يتقدم الآن عسكريا و سياسيا ؟ أم أن الوضع شبه ثابت ؟ نسبة الاراضي التي يسيطر عليها الطرقين؟

    • زائر 5 | 4:16 ص

      الحال من بعضه

      ما شاء الله عليك ما اروع قلمك.... بس غير الأسماء وينطبق المقال بأكمله على وضعنا الحالي

    • زائر 4 | 3:17 ص

      ابو حسين

      يا استاذي الفاضل,, الجميع ينادي ويتغنى بالدستور ودولة القانون وهذا صيحيح ولكن اين التبطق و هم يحاربون بشار الاسد هو كذلك يقول يوجد لدينا دستور
      وقانون ومعارضين وهم من خالف قوانين الدولة والمثل يقول كما تدين وتدان فلا
      تدافع عن الباطل هنا وتحاربه هناك الحق والباطل واحد

    • زائر 3 | 2:54 ص

      زبدة الكلام فهو لا يعدو كونه مزيجاً من الهراء والدَّندَنة الممجوجة

      اليوم، يستطيع أي بلد أن يصدح بصوته في القنوات الفضائية، ويكتب ما يشاء في صحافته الصفراء، عن احترامه للقوانين وحقوق الإنسان، لكن ما يجب عليه إدراكه، أن المعيار السليم لا يكمن في تلك الشعارات، بل في عدم وجود انتهاكات لحقوق الناس، وبوجود نظام رقابي يعاقب على الفساد

    • زائر 2 | 12:42 ص

      يتبع.. العراق نموذج غريب كذلك

      العراق لديه دستور جميل وفيدرالية وانتخابات لكن لم تستطع كل تلك الامور من منع وزير من سرقة مليار دولار!!!!!!!!!!!!!!!!!!!

    • زائر 1 | 12:40 ص

      القذافي خير مثال

      القذافي حكم ليبيا أربعين عاما وحتى عندما قربت منيته كان يقول بأن لديه دستور وحريات في الوقت الذي كان فيه سجن ابو سليم شاهدا على تلك الحرية

اقرأ ايضاً