العدد 4162 - الثلثاء 28 يناير 2014م الموافق 27 ربيع الاول 1435هـ

التسلطية بصفتها منتجاً للأزمات السياسية

منى عباس فضل comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

هل يمكن القول إنّ «التسلطية» كمفهوم وممارسة سلوك مُنتجٌ للأزمات السياسية في المجتمعات المعاصرة؟

- أجل وبالمطلق، ولنقرأ ما يفيد به أنتوني غدنز، أبرز علماء الاجتماع في الغرب في كتابه «علم الاجتماع» عن «التسلطية»، فما الذي يفيد به؟

يكتب أنتوني بأنّ «الديمقراطية تشجّع المواطنين على الانخراط في العمل السياسيّ، فيما تنكر الدول ذات الأنظمة الشمولية أو التسلطية مثل هذه الحقوق على مواطنيها أو تحدّ منها إلى درجة كبيرة، حيث تُعطى الأولويّة في هذه الدول لاحتياجات الدولة أو النظام الحاكم، فيما تأتي مصالح المواطنين في مواقع أخرى من سُلّم الأولويات، وفي أكثر الأحيان تتّسم هذه الأنظمة السياسيّة، بالميل إلى قمع المعارضة أو حتى استئصالها، وبالتطرُّف والتصدّي لأية محاولة تستهدف تعديل النظام أو المساس بالقيادات السياسية القائمة». هذه المقولة حسب أنتوني تصدُق على الكثير من الأنظمة السياسيّة الراهنة التي أغلبها في أقطار العالم الثالث أو النامي، سواء أكانت البُنية السياسيّة فيها جمهورية أم مَلكية، كما تنطبق هذه الصفة على كثير من الأنظمة التي تسمح بإجراء الانتخابات على مختلف المستويات الوطنية والمحليّة، لكنها تضع خطوطاً حمراء تتصل بسلامة النظام القائم لا يمكن تجاوزها والتساهل في أمرها...» (ص 475) انتهى الاقتباس.

من هنا نستنتج أنّ «التسلطية» تنتج الأزمات السياسيّة كونها تمثل نقيض جوهر الديمقراطية التي يتولّى فيها الشعب حُكم نفسه بنفسه تحت مظلّة المساواة السياسية، كما تخالف بدورها المشاركة السياسية لقوى المجتمع السياسية والمدنية التي تضفي على النسق السياسيّ مظهراً ديمقراطياً فتشرعن قراراته، وتقوي مرتكزاته الشعبية من خلال اتساع قدرة المواطنين على التعبير عن آرائهم وحرياتهم الشخصية وممارسة معتقداتهم وشعائرهم الدينية إلى جانب نشاطهم السلميّ للتأثير على مجريات الحياة السياسية التي تحقّق مطالبهم السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة في ظل سيادة قيم الحق والعدالة والمساواة، أو هكذا يفترض.

«التسلطية» في ذات الإطار مظهرٌ من مظاهر «الدولة الغنائمية» التي تتعامل مع المواطنين كـ «رعايا»، يُتولّى حُكمهم وليس بالضرورة خضوع من يحكمهم للمساءلة من قبلهم بسبب استحواذ الحاكمين على السلطة. والمواطنون هنا لا يشاركون في صناعة القرار السياسيّ الفعليّ، ذلك لأنّ الحاكمين لا يقرون لهم عملياً بالحقوق الدستورية والقانونية التي منحت إليهم على الورق فقط، كحق المشاركة في اتخاذ القرارات الفعلية لا الصورية ودونما ضغط أو تهديد.

وثمة ما تتميز به «التسلطية» كمنتج أزمات سياسيّة حسب دراسات علم الاجتماع السياسيّ، يتمثل في وجود أغلبية محكومة خاضعة لحكم الأقلية التي تحتكر أهم المناصب السياسيّة والاجتماعيّة في المجتمع، ما يجعلها تُخضع الأكثرية لسيطرتها. في هذا الصدد يشير الباحث الإيطالي موسكا إلى أنّ «الاحتكار والإخضاع يتمّ بطريقة توصف باستمرار أنها قانونية»، لكنها أيضاً عنيفة، لما لا وهي التي يحكمها البطش واحتكار القوة والتمتع بكافة الامتيازات المصاحبة لتلك القوة التي تستمدها من سيطرتها الفعلية على مقاليد الأمور ومراكز اتخاذ القرار السياسيّ والثروة.

ولأجل استمرارية ممّارسات العبث السياسيّ «للتسلطية» غالباً ما تسنُ قوانين وتشرعنُ إجراءات وتشيدُ آليات من بينها مثلاً آلية قضاء محكوم بالقوة، وأحكامه جائرةٌ يُعاد إنتاجها وتدويرها في دورات تعبّر عن تسيّد تلك القوة واحتكارها، كأن يحكم على بعض المشاركين في التجمهرات بثلاث إلى خمس سنوات، أو تجديد الاتهامات بتحريك دعاوى جديدة في قضايا للناشطين والناشطات السياسييّن والحقوقييّن بعد انتهاء مدد أحكامهم وتنفيذهم للعقوبات السابقة.

كما أنّها في وجهها المكمل لتلك الدورات تُمارس ما هو خارج حدود القانون والشرعة الدولية لحقوق الإنسان، كأن تصيب مواطناً لا يزال موضع اتهام لم يثبت بعد أو يحسم قضايا بطلق قيل إنه «ناريّ تحذيريّ/ رصاص حيّ» مباشر من قوات الأمن نتج عنه موت وفُسّر ذلك بمبرر المحافظة على أمن واستقرار المجتمع وأرواحه وممتلكاته.

و»التسلطية» في هذا وذاك تعنى استخدام الإرغام لمواجهة من يُعارضون سياساتها في محاولة لإخضاعهم للرأي الأوحد عبر المراسيم والأوامر والتعميمات الإداريّة والبيروقراطيّة التبريريّة، كأن يتمّ الرد مثلاً على تقارير ومزاعم عددٍ من المنظمات الدولية القائلة بوجود معتقليّ رأي، فيقال لهم في الحال «لا يوجد أي معتقل رأي سوى الجرائم الجنائية... وخلاف ذلك يبقى نشر لمعلومات كاذبة»، بالطبع ليس من بين المعلومات الكاذبة ما ورد على لسان والد «أصغر معتقل سياسيّ»: «ابني ينتظر بصيص الأمل من داخل زنزانته، بعد اعتقاله بتهمة سياسية لا يكاد يعي معناها...» (أنظر «الوسط» عدد 26 يناير 2014).

ومنه ولاستكمال الإجابة، يجمع معظم الباحثين على أنّ «التسلطية» كمفهوم وممارسة سلوك، غالباً ما تنتج كوارثَ وصراعاتٍ دمويةً وانشطاراً للمجتمعات يؤدي إلى انفجاراتها في حروب أهلية داخلية وخارجية، لما لا وهي التي بذاتها وفي عمقها -أي التسلطية- ضد أية تحولات ديمقراطية حتمية تستند إلى هذا الشكل أو ذاك من أشكال خرائط الطريق، كونها ترتكز إلى نظام أبوي شمولي قبلي مذهبي يتصور أنه الأوحد الذي يمتلك قدرة إلغاء الآخر المختلف، في الوقت الذي يظهر عجزه عن امتلاك إرادة حلّ المشاكل والأزمات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، كأن تُطلق مبادرات حوار قيل إنّها تمهد لحلّ الأزمة السياسيّة ثم ما تلبث ممارسات العبث السياسيّ الفاقع تشي بمؤشرات لممارسات تعكس نقيض ما يُشاع ويجتر يومياً في الخطابات الإعلامية.

إذن ليس من المبالغة لو قيل أنّ «التسلطية» تولد انعدام الثقة بنظامها السياسيّ القائم، كما تفرخ الكراهية بسبب التمييز بين مواطني المجتمع الواحد، بل وتنتج عنفاً مصاحباً لمظاهر الفقر والبطالة والفساد وسوء توزيع الثروات وعدم توفير احتياجات المواطنين الأساسية في الطبابة والسكن والتعليم بما يحفظ كرامتهم ويحقّق العدالة والمساواة. وهي بذلك تتسبّب وبشكلٍ ممنهجٍ في تدمير المجتمع لا في بنائه، والأهم من هذا وذاك سحب الثقة الممنوحة والانتهاء بتشييد حاجز وصد منيع بين الحاكم والمحكوم، أمّا أسبابها فكثيرة وهي وليدة نشوة الشعور بالسيطرة والهيمنة، والأسوأ بالانتصار والتفوق المحكوم بتسيد أصحاب القوة والثروة القائمة على الاحتكار والفساد وامتلاك الموقع الاجتماعيّ والقدرة العسكرية.

باختصار «التسلطية» لا تمت بأي صلة من الصلات للممارسة الديمقراطية التشاركيّة التبادلية في ظل دولة القانون حسب المتعارف عليه في الشرعة الدولية التي تحفظ حقوق الإنسان من انتهاكات «التسلطية».

إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"

العدد 4162 - الثلثاء 28 يناير 2014م الموافق 27 ربيع الاول 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً