العدد 4205 - الأربعاء 12 مارس 2014م الموافق 11 جمادى الأولى 1435هـ

إدوارد سعيد واقتراب المثقف من السلطة ونهايته

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

الانطلاق من مقولة المفكّر الفلسطيني الأميركي إدوارد سعيد «المثقف يتوقف عن كونه مثقفاً إذا اقترب من السلطة»، ستظل تستفزُّ تلك النوعية اليوم وغداً وبعد غد!

أعني بالنوعية الأخطر من تلك التي عرفها الناس لصْق السلطة متماهية، مشكّلة مصدَّاً لها؛ وإحدى الأطراف الجاهزة لتقديم تبريراتها وتنظيراتها والتماسها لممارسة مزيد من خنْق الحريات وإسكات الأصوات التي لا تستطيع ولن تستطيع التعايش مع الخلل والتجاوزات.

النوعية التي أعني تلك التي كانت في مسارات طبيعية في تعاطيها مع قضايا الإنسان. بحراك غير مُفْتعل ولا منفعل. تقرُّ متى استقرت أمور الحياة وشئون الإنسان، وفي الوقت نفسه تعمل على تحصين نفسها من تجاذبات السلطة وإغراءاتها ومحاولات استقطابها. تلك التي تحطّم ما كان يظنه كثيرون حصوناً، لتتضح أنها حصون من ورق، وتلك التي لا تحتاج إلى أن تدخل في اختبار بطش السلطة بها واستضافتها في الأقبية ومراكز الاستجواب السرية. لا تحتاج إلى الخضوع لجلسات «مساج» من نوع خاص. لا تحتاج إلى رفعها على «تلفريك» من نوع خاص أيضاً، ولا تحتاج إلى تقليم لأظافرها وفي جلسات خاصة أيضاً، أو اختبار قوة الفولت على مواضع من أجسادها! لا تحتاج إلى كل ذلك. تحتاج فقط إلى إيقاظ الوحش والنذْل والمرتد عن قيمته فيها لتصطف وتنكص وترتد على أعقابها.

مقولة سعيد ستظلُّ تكشف دخيلة انتهازية، وتوقيتاً يتم قبله اللعب على الجمهور ووعيهم في فترات تبدو مستقرة. يظل التعويل على تلك الجماهيرية خاسراً، وخصوصاً إذا تمّت التضحية بهم وجعلهم جسوراً وطريقاً مختصرة للعبور إلى مغانم تظل مؤقتة تلوّح بها السلطة.

كل الاشتغال على مشاريع الوعي والمعرفة والفكر والأدب لدى المثقفين السابقين الذين أصبحوا جزءاً من منظومة السلطات العربية، مدافعين، منافحين، متصدّين لتسخيف وتخوين وتسقيط الأطراف على الضفة الأخرى؛ تصبح تاريخاً ونسْياً منْسيَّاً، ولا يحتاج إلى تبرؤ. واقع الحال الجديد والاصطفاف بحسابات المنافع والربح والخسارة، نص تبرؤ سيقرأه حتى الذين لا قِبَل لهم بالقراءة ولا يملكون مفاتيحها!

لم يحدد إدوارد سعيد تصنيف السلطة وطبيعتها ومكانها بين الجماهير الذين ركلهم المثقفون للالتحاق بالسلطة. لم يحدد سلطةً في كوريا الشمالية أو دول النفط الغني بالثروات الخاصة التي لا تطولها غالبية «الرعايا». لم يتحدث عن السلطة في دول عربية تحدد فيها سلطة الحاكم مع تاريخ رحيله إلى القبر. لم يحدّد أيضاً سلطات في دول وممالك دستورية أوروبية من أميركا إلى الدنمارك. السلطة تظل سلطةً بهيمنتها واطلاعها بشئون الناس، سواءً بتفويض أو غصْب.

اقتراب المثقف حتى من السلطة المنتخبة والمُفوَّضة فيه إفسادٌ لدوره ومشروعه وقدرته حتى على مقاطعة خطاب أو مؤتمر صحافي يعجُّ بالهراء والأوهام.

اقترابه من تلك السلطة ذات الضرر الأقل والتجاوزات والانتهاكات التي يمكن رصْدها عبر المؤسسات الدستورية، سيفقده حياده وإحراقه لملفات وقضايا وأولويات ما كان يفكّر في محْوها وهو مستقل، وبمنأى عن السلطة وسقفها الذي كلما حاول أن ينهض ارتطم رأسه وقناعاته به (السقف).

لم يحدد سعيد السلطة التي يبتعد فيها المثقف عن دوره لمجرد اقترابه منها. باختصار: كل السلطات، دينية كانت أو ديمقراطية أو قمعية. لسبب بديهي: للسلطة سقفٌ لا يمكن أن تتجاوزه. عدم تجاوزك له يعني ارتهانك لها. التجاوز بمعنى عدم الانسجام مع إجراءاتها وأدبياتها بشكلٍ يتيح لك مساءلتها واستجوابها وحق الاحتجاج عليها فيما يبرز ويبدر من خروج وتجاوز!

إذا كان الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو يرى أن القمع لا يصلح لإبراز الجانب المنتج في السلطة، ينحاز «المثقف السابق» إلى قمع السلطة على حساب إنتاجه المعرفي الفاعل والمؤثر والفارق، وفي ذلك ضياع قيمته وانتفاء دوره!

سيظل إدوارد سعيد يتحرّش نفسياً بمسوخ المثقفين العرب في مرحلة لا تقبل الاصطفاف مع الجلاد والضحية في الوقت نفسه.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 4205 - الأربعاء 12 مارس 2014م الموافق 11 جمادى الأولى 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 1:39 ص

      ابداع

      والله انك تحليلك لمقولة سعيد ابداع اكثر من المقولة نفسها. لو قرأتها أنا لما تشظت في عقلي كل هذه الافكار بعد ان قرأت مقاربتك لها.
      مقال جميل ومدعاة للتفكير والتأمل.
      لك الف تحية.

    • زائر 1 | 12:31 ص

      ما صح الى الصحيح

      اللة كريم

اقرأ ايضاً