العدد 4218 - الثلثاء 25 مارس 2014م الموافق 24 جمادى الأولى 1435هـ

إنها «دخان الورد» للحجيري

منى عباس فضل comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

في حكاياته القصيرة التي ينشرها في متن «دخان الورد» يرحل بنا أحمد الحجيري بين أزمنة متباعدة وأماكن متنوعة، يجسّد من خلالها لمحاتٍ من سيرته الذاتية، لاسيما عند رصد مؤشراتها الجوهرية التي تحدد ماهية مسارها الإبداعي وبما تلعبه من دور أساسي في رسم ملامح عمله القصصي. فثمة ما نتعرف عليه من حياته في القرية وخلال أسفاره وعلاقاته مع الأشياء والمواقف والعلاقات الإنسانية، كما نتبين انتماء نصوصه القصيرة التي تبدو متناثرةً في ظاهرها، لكنها مترابطةٌ بقوة وتماسك في حالة قص واقعي وخيالي مارسه باقتدار.

استندت النصوص إلى مقوّمات فنية تعبيرية تناولت حالات سردية قصيرة ومكثفة بث من خلالها المؤلف خلاصة تجارب حياتية ناضجة، وأفكاره ومواقفه في حالة وصفية تتحرك من خلالها الشخصيات بصورة مباشرة، يدفع بها تارةً للدخول في حوار حي، وتارةً أخرى تتحرّك بصورة غير مباشرة ينقل فيها أحداثاً ومواقف، ويكشف عن قيم وعادات، كما يتمثل الذات في الإفصاح عن قناعاته ورؤيته بصلابة وثقة، لتلك المواقف والأشياء في محاولة حثيثة للابتعاد عن أسلوب الحكي التقليدي الذي يسهب ويطيل في العرض والشرح والتحليل، فيركن في قصه القصير إلى الأسلوب السردي الحديث. ولعل هذا ما تفرد به في تجسيد الأبعاد الفنية والتصويرية التي يمكن رصدها وتلمسها، خصوصاً في بلاغة اللغة التعبيرية وعمقها تشبيهاً وكناية، تلك التي وظّفها كأداة «صهد ذلك الضحى الصيفي قد بكّر.. حيث تتلقفهم أفواه المنافي المفغورة وتتلمضهم ثم تقذفهم في أحضان التيه الهيولي.. فتنبت العيون من خلف النوافذ... ضربت أم إبراهيم على صدرها المتيبس منذ أمد بعيد.. عراجين النخلة المترعة ببلحها الناري.. علقتني عيناها من ياقة قميصي في الهواء..».

في متن «دخان الورد» ما يفوق العشرين حكاية ونصاً قصيراً، من بينها «المبشرة» التي يجول في متنها بين زمنيين نقيضين، حين كانت «المبشرة» صبيةً حيةً، وبين زمن انحدارها وترهلها، إذ يتفاعل الحدث بين وقائع جزئية تدور في مواسم القرية واحتفالاتها، فيحرك شخصياتها برشاقة في مهرجانها السنوي الذي توقف ذلك العام بسبب «غزوة أسراب الجراد التي غطت عين الشمس». ويصف «النخلة وهي متغطرسة»، وستهطل السماء بلحاً مسحوراً وستزغرد النساء.. لكن الحياة قد فقدت طعمها في ذلك الموسم لغياب حجي عبد النبي البنّور متسلق نخلة «المبشرة»، لقد أصبح هرماً محطماً وبعد أن خرج من صمته قال:

- لا فائدة. النخلة ستقلع. ستقزم كل نخيلكم.

ولزم داره لا يبرحها، ومرّ موسم، وموسمان، وثلاثة... وبدا النمل كما رأى البنّور يزحف ويزحف..!

وفي حكاية «دخان الورد» التي على ما يبدو لها صلة بتجربة ذاتية في المعتقل، حين أسكن فيه مجبوراً في الزنزانة المسكونة بالتوحد، فيحاول تصوير الأبعاد الزمانية والمكانية وتأثيرها. إنها خمس دقائق ذهاباً وأخرى إياباً إلى حيث الصندوق الخشبي، كنايةً عن «دورة المياه» التي يمضيها تحت استعجال وزعيق وزجر السجّان، كما يصف من خلالها شخصية الأخير ويحلل باقتضاب خلفيتها وصلافة سلوكها ومن حيث هيئة اللباس والسلوك والألفاظ وبكل ما يتعلق بشرر النفس الذي تتموضع فيه: «أمدّ يدي اليمنى ليقفل على رسغي إلى جوار رسغه الأيسر.. وتمرّ المجموعة. شرطي في الخلف يده متجمدة على حديدة طويلة قبيحة تدعى بندقية. ورجل مستلب موثق كرهاً إلى رسغ آخر ليست بينهما أية مودة، ولكن شاء لهما القدر أن يكونا متلاصقي الرسغين...».

إن مشوار الدقائق الخمس يثير شجونه ويستفز حواسه، يجعله يحلق بالأحلام والخيال، لا حرية إلا بالنظر إلى السماء التي خاف ساكن الزنزانة زرقتها، ودقيقة أخرى لتلقي السباب والشتم بالشرف وبالأم، ودقيقة إياب كان فيها محملاً بشجرة دفلى معرشة بالأغصان والأوراق والزهور، مليئة بالعصافير والفراشات والحب، وكنز ثمين في جيب البجامة. حصوتان وكسرة غصن من شجرة دّفلى أخرى يتحرّر بهما من أسر المكان. هكذا بالتكثيف وبساطة السرد وعمقه يصل بالقارئ إلى المغزى الحقيقي لما تحمله حكاية العشر دقائق في طياتها من فكرة حول معاناة المعتقل وعلاقته المثيرة للجدل مع السجّان، وانتهاك أبسط حقوقه الإنسانية.

أما بقية الحكايات «السجادة» و«الهامات» و«اعتدال الهامات» و«قبر الغريب» و«للحلم وجه آخر» و«احتفال» و«ضحك كالبكاء» و«يا ليل يا عين» و«شجرة النارجيل» و«الحمامة» و«حمام مدريد»، و«الفستان الأحمر» و«العشاء الأخير» و«جثة ليست للدفن» و«قبلة، خيانة، أرجوحة، كراهية، رهان، حذاء، نخلة، رفض، نهاية»، فجميعها قصص قصيرة «مرآة»، عبر بها عن الفن القصصي القصير بكل احترافية لما يجري في المجتمع من تفاعل وتضاد وتداخل وتشابك في العلاقات والمواقف، موظّفاً أسلوبه السردي الحواري ذا اللغة الجميلة، فها هو «عبوّد العوّاد» متمرد القرية في «الهامات» الذي لا ينفك يسبّ ويلغو ويبصق على كل ما يمره. و«عباس» هو الآخر الذي نصب نفسه ولياً لأمر القرية، يصالح الزوج بزوجته مقابل لمسة فاحشة مفاجئة فيما تيسر له من جسد الزوجة دون أن يلحظ ذلك الزوج. و«حجي مسعود» صاحب قن الدجاج الذي يبلغ «العوّاد» قرار طرده من الغرفة، فلم يجده، فقط وجد كتباً وجرائد ممزقة، وأعقاب سجائر متناثرة وإيجار الغرفة/ قن الدجاج، وفوقه بصقه كبيرة جعلت «حجي مسعود» يهزّ هامته الفارغة.

وكذا يكشف المؤلف في «احتفال» و«ضحك كالبكاء» و«يا ليل يا عين»، عن زاوية من زوايا علاقته ورؤيته للمرأة الإنسان، وللحب والنشوة، فهو يمهد لحالة وجدانية لكنه من الواضح لا يتخطى حدوداً وقيوداً مرسومة على الرغم من مهارة قدرته في تعرية مظاهر تسليع المرأة في المجتمع الرأسمالي الذي أفقدها إنسانيتها وأوصلها إلى العجز وفقدان الشعور بالعشق الوجداني «هممت أن أضغطها بين جوانحي فوجدتها باردة»، «وذات صباح جاءت المرأة الشبّقة، ركلت صديقي، جرجرته عنوة. سار خلفها منقاداً وغاب خلف المنعطف، ولازالت أنتظره وأنا أقهقه وأجهش بالبكاء».

وكما أهدى المؤلف الحجيري باكورة «سّفر» ما رأي وما تبدى له إلى الرائحين والغادين في مسارب أيامه... ومن طرقوا أبوابه الموصدة ذات مساء قائظ، فبانت له السماء مدهشةً من خلال سجف العتمة، نهدي إليه بدورنا التهاني بتدشين مجموعته القصصية «دخان الورد» في طبعتها الأولى قريباً في معرض الكتاب القادم.

إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"

العدد 4218 - الثلثاء 25 مارس 2014م الموافق 24 جمادى الأولى 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 6:55 ص

      دخان الورد

      الدكتورة منى
      إنه تحليل سريع ولكنه يمسح عوالم الحجيري ..
      لقد أشعلت فينا رغبة قراءة هذه المجموعة

    • زائر 1 | 4:58 ص

      جميل

      جميل جداً أن يكون لنا قاص للحكايا بهذه الحرفية و الجذب
      المقال استعرض جزيئات مما حوى فكر الحجيري
      و جعلنا نتهيأ للغوص في بحر الحكاية قبل اقتنائها اصلاً
      اتمنى الآن ان يكون في حوزتي دخان الورد
      شكراً

اقرأ ايضاً