العدد 4313 - السبت 28 يونيو 2014م الموافق 29 شعبان 1435هـ

“الخيرة” نقلتني من النجف لبيروت... واخترت “الصيدلة” خدمة للناس والبلد

أول صيدلاني أكاديمي في الخليج... الجشي لـ”الوسط الطبي”:

غني عن القول إن البحرين تمتلك تاريخاً عريقاً على مستوى المنطقة، وتمتلك في سجلها ريادة على مختلف المجالات والأصعدة، إلا أن الحقيقة «المؤلمة» التي لا مفر منها، أن السواد الأعظم من تفاصيل هذا التاريخ وهذه الريادة لاتزال حبيسة صدور صانعيها.

طبياً، يحق للبحرين أن تفخر برصيدها الثري والممتد لسنوات وسنوات، ويحق لها أن تطالب أبناءها بأن «يسارعوا» لاستخراج ما في الصدور، والعمل على توثيق تاريخها وحفظه من الضياع.

واستكمالاً لمشروعها التوثيقي «الذاكرة الطبية»، يتحدث رسول الجشي، وهو أول صيدلاني أكاديمي في البحرين والخليج العربي، عن جزء من ذاكرته، وعن الظروف التي صاحبت قرار انتقال الجشي «هاوي الشعر والنثر»، من الأدب إلى الصيدلة، لينتقل بعد ذلك للحديث عن محطات من عمله صيدلياً في مستشفى النعيم، ولاحقاً من خلال افتتاحه صيدلية الجشي بشارع المتنبي في المنامة.

نترككم مع اللقاء وتفاصيله:

لنبدأ بالسؤال التالي: لمائا الصيدلة؟

هوايتي وميولي هما للأدب، شعراً ونثراً، إلا أن اتجاهي لدراسة تخصص علمي، جاء بدافع خدمة البلد، وأنا أتحدث هنا عن فترة زمنية تعود لما قبل 60 عاماً، وفيها كانت علاقة الفرد بالدولة وعلاقة الفرد بالناس تختلف عمّا هي عليه اليوم اختلافاَ جذرياً؛ إذ كان الفرد في ذلك الوقت يقدم مصلحة المجتمع على مصالحه الشخصية، بل لا أبالغ حين أقول إن الفرد كان يفكر في الآخرين أكثر من تفكيره في مستقبله.

وإذا ما أضفت لذلك، الغياب التام للبحرينيين عن قطاع الصيدلة، فإننا سنكون أمام سبب كافٍ لاختياري هذا المجال لدراسته... هكذا من دون أي تعقيد ومن دون أن يتطلب مني ذلك وقتاً طويلاً.

هل كان للوالد دور في حثك على دراسة الصيدلة؟

إذا أردنا الحديث عن الوالد رحمه الله، فهو قصة أساسية مرتبطة بذهابي لبيروت والدراسة في الجامعة الأميركية، فقد كان يتبنى موقفاً معارضاً لذلك، وأخبرني أنْ لا مجال لسفري، وعلى رغم الصعوبة الكبيرة التي واجهتها لإقناعه، بالنظر لمكانة الوالد في ذلك الوقت والتي لا تسمح برفض أوامره، فقد كان إصراري كبيراً، في ظل علمي بأن وزارة التربية والتعليم تعتبر موافقة الأهل شرطاً رئيساً لابتعاث الطلبة للدراسة.

وفي نهاية المطاف، اختار والدي أن يستشير أحد أبرز أصدقائه، فلجأ إلى المرحوم الشيخ عبدالحسين الحلي، والذي نصح والدي بالاستخارة مخرجاً من هذا الموقف، فوافق الوالد، وكانت نتيجة «الخيرة» لصالحي، حيث أكد الشيخ الحلي أنها تسمح لي بالمغادرة إلى بيروت!

ولعل اللافت والمثير في الموضوع، أنني حين اجتمعت شخصياً مع الشيخ الحلي، لأسأله عن ذلك، كان رده: «يا ولدي، لا سويت خيرة ولا شي»، وأضاف «إذا طلعت الخيرة نهي، فلن أتمكن من أن أقول غير ذلك لوالدك...».

وما هو سبب رفض الوالد لسفرك؟

كان يقول لي إنني أعددت لك رحلة للنجف، وهذه الحكاية أفصح عنها للمرة الأولى...

هل هذا يعني أن الوالد كان يرغب في أن يراك معمماً؟

(بطرفة يجيب)، مؤكد... ولو اختار لي اسم «عبدالرسول» فإني أراه معقولاً...

ما أود أن أشير إليه في هذا الصدد، والذي أرى أن له أهمية ودلالات، أن موضوع حصولي على بعثة دراسية لبيروت، تدفعنا للمقارنة بين وضع البعثات آنذاك ووضعها حالياً، فقبل 63 عاماً (نتحدث عن 1951)، كان وزير التربية والتعليم الأسبق أحمد العمران قد أخبرني أنني سأحصل على بعثة دراسية، وسيتكفل هو بترتيب الموضوع مع الوالد، وكان قد اختار في ذلك الوقت الأربعة الأوائل في الصف، ولحسن حظي فقد كنت من الأوائل، وكنت واثقاً من حصولي على بعثة.

ما أريد التحدث عنه في هذا السياق، أن المقارنة بين حال البعثات الدراسية سابقاً وحالياً، يدفعنا للتأكيد على الإيجابية التي يجب أن توثق للمرحوم العمران، والذي كانت اختياراته بعيدة كل البعد عن المعايير الطائفية السائدة الآن.

هل سافر معك أحد لدراسة الصيدلة؟

كنت الوحيد...

وهل سبقك أحد من البحرينيين؟

لم يسبقني أحد، فقد كنت ضمن ثالث بعثة تسافر للدراسة على مستوى البحرين.

هل هذا يعني أنك أول صيدلاني بحريني؟

بل في الخليج... وقد وثق ذلك المؤرخ البحريني خليل المريخي، وبصورة عامة، فإن البحرين كانت متقدمة في هذا المجال على دول الخليج، وتعتبر أول دولة نظمت مهنة الصيدلة.

وماذا عن المعلومة التي تتحدث عن المرحوم علي يتيم بوصفه أول صيدلاني بحريني؟

المرحوم يتيم، كان ممارساً للصيدلة، ولم يمتهنها عن طريق الدراسة الأكاديمية.

هذه الريادة، ماذا تعني لك على الصعيد الشخصي؟

بلا تكلّف، لم تكن تعني لي شيئاً، فكما قلت إن توجهي لدراسة الصيدلة... كان من أجل الناس ومن أجل البلد.

لننتقل إذاً للحديث عن مرحلة الدراسة في بيروت...

تطلبت مني هذه المرحلة 6 سنوات كاملة؛ خصصت السنة الأولى منها لدراسة تمهيدية، والسبب في ذلك يعود إلى أن الشهادة التي تحصلنا عليها في البحرين، لم تكن تعادل «التوجيهي» في بيروت، وهو الأمر الذي شمل جميع من سافر معنا للدراسة في ذلك الوقت، وخلال هذه السنة تلقينا دروساً لتقوية لغتنا الإنجليزية، إلى جانب مادة الرياضيات وبقية المواد الأساسية، وبعد انقضاء السنة الأولى، انتقلنا لدراسة التخصص.

ما الذي بقي عالقاً في الذكريات من هذه المرحلة؟

إجمالاً، كانت الذكريات جميلة ورائعة، وكانت علاقتنا مع أساتذتنا أقرب للصداقة، ولعل هذا يعود بالدرجة الأساس للأسلوب الإداري والتعليمي الذي كانت تدار بها الجامعة الأميركية في بيروت آنذاك.

ومن بين ما أتذكره، أننا كنا نعاني الأمرّين للوصول لبيروت، فقد كنا نركب طائرة صغيرة لتنقلنا إلى الكويت، ومن الكويت تطير بنا للبصرة، ومن البصرة لدمشق حتى نصل لبيروت، وكل هذا لأن مطار بيروت لم يكن يعمل في تلك الفترة، وقد شكل لنا ذلك صعوبة كبيرة جداً.

ومن الذكريات أيضاً، أن نظام الجامعة الأميركية، كان يلزمنا بالعمل في فترة الصيف، وكنت أعمل في بيروت مساعد صيدلي، كان ذلك من دون مقابل، وكانت المسألة تحتسب جزءاً من الدراسة.

وهل عدت للبحرين مباشرة بعد انتهاء مرحلة الدراسة؟

كانت دولة الكويت تفتقر في ذلك الوقت (1958م) لوجود الصيدلي، وطلبوا مني أن أنتقل للعمل هناك، إلا أنني رفضت، وأوضحت لهم أن حكومة دولة البحرين هي من ابتعثتني للدراسة، ولا يبدو مناسباً أن أعمل في مكان آخر.

وفور ذلك، عدت للبحرين، وعملت في وظيفة صيدلي في مستشفى النعيم.

حدثنا عن وضع الصيدلية في مستشفى النعيم في ذلك الوقت؟

كان تعيساً، ولم يكن الجو مريحاً، فقد كانت الكوادر العاملة في المستشفى جميعهم من الأجانب، وكنت البحريني الوحيد بينهم ممن يعمل صيدلياً.

ومن المؤكد أن عمل الصيدليات في ذلك الوقت، يختلف كثيراً عما هو عليه اليوم، فالجزء الأكبر منه كان معتمداً على تركيب الدواء، في الوقت الذي تأتي فيه الأدوية حالياً جاهزة ومعلبة.

وبشكل عام، فلقد شهد عالم الصيدلة والطب، تطورات سريعة بصورة يومية، ويشمل ذلك الأدوية التي تصنع والبحوث تكتب باستمرار، على العكس تماماً من الوضع قبل ستة عقود.

هل يعني هذا أن وضع الصيدلية في مستشفى النعيم آنذاك، لم يكن مقبولاً أو مرضياً بالنسبة لكم؟

على رغم حديثي عن الوضع التعيس لصيدلية المستشفى، إلا أن الأمانة تقتضي التنويه إلى أننا لم نواجه اعتراضات، وكان وضع الصيدلية منظماً، حيث كان المريض يحصل على معاملة إنسانية مقبولة تماماً.

وهل كانت الأدوية متوافرة ومتاحة؟

كما أشرت، كنا نباشر تحضير غالبية الأدوية بأنفسنا، أما ما كان يستورد من الخارج فقد كان محدوداً جداً.

وأود أن ألفت الانتباه إلى أنني تركت العمل في مستشفى النعيم، بعد أشهر معدودات من الالتحاق به، فالوضع لم يرق لي حينها، ووجدت نفسي أمارس أعمالاً معاكسة تماماً لقناعاتي، ومعاكسة لما تعلمته.

ما الذي تعنيه بالأعمال المعاكسة لقناعاتك؟ هل من توضيح؟

أعني بذلك وبشكل محدد، الطريقة المتبعة آنذاك في تحضير الأدوية والتي لم تكن صحية أبداً، ولم تكن تتم بشكل علمي، فقد كنا نأخذ المرهم من الوعاء ونضعه على الطاولة، ونملأ بعد ذلك العلب الصغيرة، وأعتقد أن هذه الطريقة البدائية كانت فرصة وثغرة لامتزاج هذه الأدوية بالجراثيم...

على إثر ذلك، قررت الرحيل بعد أشهر من التحاقي بالمستشفى (التحقت نهاية سبتمبر/ أيلول 1958 وغادرت يناير/ كانون الثاني 1959)، وعلى رغم محاولات المسئول (هندي الجنسية) ثنيي عن قرار الاستقالة إلا أنني مضيت في قراري ولم أتراجع.

وماذا بعد مستشفى النعيم؟

مباشرة، وفي العام ذاته (1959م)، افتتحت صيدلية الجشي في شارع المتنبي في المنامة.

هل يعني هذا أن فكرة افتتاح صيدلية خاصة كانت تختمر بداخلك؟

مطلقاً، وعلى العكس من ذلك، فقد كان اتجاهي محصوراً للعمل في الصيدلية بعيداً عن الحسابات المادية والسعي للربح، إلا أن الأقدار شاءت أن أفتتح الصيدلية الخاصة، وقد وفقنا في ذلك ولله الحمد.

وكيف كانت ظروف افتتاح هذه الصيدلية؟

سبق افتتاحها، وجود عدد من الصيدليات، كصيدلية يوسف محمود حسين، وصيدلية عبدالنبي سبكار، وصيدلية رويان، إلى جانب صيدليات أخرى صغيرة.

وماذا عن استيرادكم للدواء، من أي البلدان كنتم تحصلون عليها؟

لعدم توافرها في الداخل، فقد باشرت شخصياً في استيراد الأدوية من الخارج، على اعتبار أن الموردين كانوا يجلبون الأدوية للبحرين لبيعها في صيدلياتهم لا لتوزيعها على تجار آخرين.

بالنسبة لصيدلية الجشي وظروف افتتاحها، حدثنا عن الغرض والأهداف...

في الصيدلية، لا أخفي بطبيعة الحال الغرض الربحي، لكني في الوقت ذاته أؤكد أنني لم أكن أتعاطى مع المهنة بذهنية التاجر، وكنا نقدم النصائح للمريض ونشرح له بعض الجوانب الصحية التي يحتاجها، وأستطيع القول إننا خلقنا علاقة مباشرة بين الصيدلي من جهة والمريض من جهة أخرى.

وحين نقارن ذلك بما هو عليه الآن، فإننا سنجد، وللأسف، أن الجانب المادي طغى على الجانب الإنساني في مهنة الصيدلة، وبات دخول المريض لأي صيدلية لا يختلف كثيراً عن دخوله لأي «سوبر ماركت».

عن صيدلية الجشي، حدثنا عمّن كان يباشر العمل فيها؟

عملت فيها أنا شخصياً، وواظبت على ذلك لفترة، وكنت إلى جانب عملي صيدلياً، أتولى عملية شراء الأدوية والنواقص، واللافت أنني في بعض الأحيان كنت أطلب من المريض أن يبقى في الصيدلية وينتظرني حتى أجلب له الدواء من صيدلية أخرى.

وكيف كان إقبال البحرينيين على شراء الأدوية؟

كان محدوداً، ويبدو هذا منطقياً بلحاظ الوضع المادي الضعيف في ذلك الوقت، فقد كانت الناس بسبب ذلك، تفضل الحصول على الدواء من مستشفى النعيم بدلاً من شرائه من الصيدلية.

هل يمكننا القول إن ثقافة التداوي في البحرين، كانت في بدايات تشكلها؟

برأيي، كانت الثقافة بدائية آنذاك، فالطلب على الدواء كان محدوداً كما أشرت.

وكيف سارت أحوال صيدلية الجشي؟ هل تطورت؟ هل واجهت صعوبات؟

شهدت الصيدلية تطوراً، فقد شرعت الشركات في الخارج في تطوير إنتاجها للأدوية، وبدأت الأدوية التي لها تأثير جذري على صحة الإنسان في الظهور في سنة 1960 - 1961م، وتلاحقت التطورات بعد ذلك.

وضمن عملية التطوير للصيدلية، قمت بتقسيمها لقسمين؛ قسم أمامي للأدوية الجاهزة والقسم الخلفي للتركيب، وكانت تأتينا وصفات طبية لتركيب بعض الأدوية، وهي العملية التي اختفت حالياً.

وكتنظيم لمهنة الصيدلة في البحرين، متى بدأ ذلك؟

في البدايات لم يكن هنالك تنظيم بالمعنى الصحيح، فلم تكن الرقابة الرسمية موجودة، وكانت الصيدلية هي من تراقب ذاتها، وتعمل ضمن المطلوب.

ولو أردنا الحديث عن مراحل نمو وتطور مهنة الصيدلة في البحرين، فما الذي يمكن قوله في هذا الإطار؟

التطور كان تلقائياً، ولم تعمل جهة معينة على عملية التطوير، وكما أن الصيدلاني كان هو من يعمل على تطوير نفسه بنفسه، حتى زادت أعداد الصيدليات وزادت حدة المنافسة بينها، ونتيجة ذلك ساهمت في تطوير المهنة والقطاع عموماً.

هل يمكننا القول إن زيادة أعداد الصيدليات، ترك آثاره الإيجابية على المهنة وعلى الصحة العامة للمواطنين؟

من دون شك أن الزيادة كانت لها فائدتها، لكن ما حصل أن الصيدليات اتجهت للربح وطغى عليها الهدف المادي، ولو نقارن أنفسنا ببلدان أخرى، لن نجد في تلك البلدان إلا صيدلية واحدة في منطقة كبيرة مترامية الأطراف، على عكس ما هو حاصل هنا، إذ من الممكن أن تجد 5 صيدليات على شارع واحد.

ألا تعتقد أن هذا التنافس، يصب في مصلحة المواطن في نهاية المطاف؟

هذا الأمر صحيح، فالمستهلك يستفيد من هذا الجانب، وأنا أعترف بذلك، فالأمر يساهم في ضبط أسعار الأدوية، ومؤخراً، بدأت الحكومة تنتبه للموضوع، حتى بات التنظيم واضحاً وبمستويات أكبر عما كان عليه في السابق.

وماذا عن التشريعات الخاصة بمهنة الصيدلة؟ هل تعتقد أنها ظهرت في وقت متأخر أم أنها ظهرت في وقت مناسب؟

قطاع الصيدلة كان مهملاً من قبل الجميع، والأسعار هي التي دفعت بالناس للاهتمام بالموضوع.

أما التشريعات والقوانين، فقد صدرت، ونظمت العمل ومنعت التلاعب في الأسعار، وهو أمر جيد بالنسبة للمريض أو المستهلك.

العدد 4313 - السبت 28 يونيو 2014م الموافق 29 شعبان 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً