العدد 4314 - الأحد 29 يونيو 2014م الموافق 01 رمضان 1435هـ

دخول الامتحان الأصعب

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

نقول: امتحان أو اختبار. نُقرِن اللفظيْن «عادة» بالدراسة، لكن أصلهما أوسع من ذلك بكثير. فقد ذَكَرَ الأَزهري وغيره (كما جاء في «لسان العرب») في معنى الفِتنة أنها «الابتلاء والامْتِحانُ والاختبار، وأَصلها مأْخوذ من قولك فتَنْتُ الفضة والذهب إِذا أَذبتهما بالنار لتميز الرديء من الجيِّدِ. وفي الصحاح: إِذا أَدخلته النار لتنظر ما جودته» انتهى الاقتباس.

والحقيقة، أن هذا التفسير لازمٌ إدراكه كي نتصوَّر سلوكنا جيداً. فالصَّادق لم يكن صادقاً إلاَّ عندما جرَّبه الناس في معاملاتهم معه. والأمر يسرِي على الكذَّاب والعفيف والشجاع وغير ذلك. لذا، فإن البشر لم يكونوا ليُدركوا معنى السلوك الجيد والرديء من خلال الكتب والنظريات، بل من مصاديق الموضوعات. فلو أتينا بمليون كتاب يتحدث عن الأمانة دون أن نجِدَ أميناً واحداً فإننا لن نتحسسها كما يجب. فمعنى الأمانة ليس مُدرَكاً إلاَّ بفعلها.

وإذا ما علمنا كل ذلك، فإن السؤال المطروح هو: ما هو الامتحان الأصعب في هذا الزمان يا تُرى؟ وإذا ما دخلنا جميعنا في ذلك الامتحان مُفتَتَنين، فهل سنجتاز الفتنة بنجاح أم بفشل؟ أولاً، فإن اعتقادي الراسخ هو أن أكثر الامتحانات صعوبة في هذا الزمان هو الامتحان الطائفي. مهلاً... فليس الأمر مزحة، إذا ما علمنا أن النجاح فيه، يعني النجاح في كافة الامتحانات. امتحان الصدق والكذب والشجاعة والأمانة والمروءة وغيرها من الأوصاف.

ليسأل الواحد منا نفسه لو كان في هذا الموضع: ماذا لو خُيِّرَ سُنيٌّ أو شيعيٌ (والحبل على الجرار في التسميات) في أن يُفاضل بين نصرة منتسب له في المذهب وآخر من خارجه، في الوقت الذي يكون فيه المنتسب إليه ظالماً والآخر مظلوماً، فلأي منهما سيقف؟ هل سيقف مع الزلل والخطأ لأن فاعله ينتسب إليه مذهبياً، أم أنه سيكون مع الحق حتى ولو كان على حساب صاحبه؟ إنها لحظة امتحان «أخلاقية» بامتياز، تذوب فيها المشاعر الجاهلية وتُمحى من السلوك، أو أنها تبقى بل وتتضخم لتبقى هي السَّيّدة على أقوالنا وأفعالنا؟

فإما أن تقف إلى جانب مَنْ ينتسب إلى مذهبك حتى ولو كان ظالماً، فتكون بذلك كذاباً جباناً خائناً، وإما أن تقف إلى جانب القادم من خارج مذهبك كونه مظلوماً وصاحب حق ومكانة، فتكون بذلك صادقاً شجاعاً أميناً. هذه هي الصورة الحقيقية لكافة مواقفنا وسلوكنا اليومي، بعيداً عن التنظيرات التي نقولها في الصحف والمايكروفونات حول الوحدة ونبذ الطائفية، إذا ما أردنا أن ننجح.

لنعلم جميعنا، أن هذه ليست حالة مثالية، بل هي أمر متحقق لأنه منسجم أصلاً مع الفطرة ومع التعليمات السماوية ومع القوانين التي صاغها البشر أنفسهم. ربما سَمِعَ البعض بأسقف بريكسن الكاردينال نيكولا دو كوزا. إنه شخصية فريدة فعلاً. وبدراسة حياته، سيتبيَّن لنا أنه اجتاز الامتحان الطائفي بامتياز قبل 561 عاماً، حين كانت أوروبا مريضةً بالأسقام الطائفية (كاثوليك بروتستانت) والدينية (مسيحية/إسلام) لقرون.

فموقعه الديني لم يكن دافعاً له لأن ينتصر على الهوسيين لصالح الكنيسة ولا العكس، بل كان منتصراً للحق أينما وُجِد فيهما. ولنا أن نتخيَّل الجو المحتقن في أوروبا عندما سقطت القسطنطينية في يد العثمانيين، إلاَّ أن دو كوزا كان صاحب الصوت الأعلى في الحوار مع المسلمين، بل وانتصر ودافع عنهم ضد الحروب الصليبية، التي كانت في ذلك الأوان تقترب من الحملات الأربعة وخمسين ما تلاها. لقد كان دو كوزا عظيماً في الفعل كما كان عظيماً في الفكرة مثلما كان يقول وليم شكسبير. إنه تاريخ ذهبي.

لو تمعنا في أحوالنا مع شديد الأسف، لرأينا أننا تجاوزنا كل الحدود في القبول بكل خطأ يصدر عن مجانين، نُخرِّج لهم على أنهم عقلاء، فقط لأنهم ينتسبون إلى مذهب محدد. صرنا نُبرِّر حتى القتل والسجن والنهب بل والتمثيل بالجثث دون أن ترتعد فرائصنا هولاً من هذه الجرائم النكراء! إنها لحظة في غاية الانحطاط وصلت إليها البشرية، وينبغي النظر إليها بعمق.

كل شيء صارت النظرة إليه من ذلك المنطلق. الحكم والسياسة والوظيفة والحب والزواج والشراكة والتعاون، بل وحتى التفوُّق والعلم بات يُشتَم من منطلقات طائفية. وقد وصل الحال بالبعض لأن يتمنى تغيير المكان والجغرافيا فيزيل الجبال ويُزيح الأنهار، كي يفزر مضاربه لتصبح ذات نقاوة طائفية! إنه أمر مفزع ولم يعد يحتمله البشر.

كل سلوك نقوم به على ذلك السَّمت هو يُؤسس إلى جرح لا يندمل، بل يتوسع في داخله إلى جروح فرعية، ما تلبث أن تتحوَّل إلى أخرى أصيلة. ربما لا نحس اليوم بها، لكننا نقوم بعلم أو بغير علم إلى صياغة مستقبل ملغوم، محاط بالمخاطر، وستأتي اللحظة التي ينفجر فيها ويسقط السقف على الجميع، أو ينهمر الماء فيغرق الصغير والكبير.

لا أشكُّ أبداً في أن الوصول إلى تغيير ذلك المشهد السلبي إلى آخر إيجابي، حيث يجتاز فيه الناس امتحانهم الطائفي بنجاح، هو يعني وصولاً إلى مستقبل أكثر أمناً، وأكثر نظاماً وتمسكاً بالقانون وبالنظام الأخلاقي.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4314 - الأحد 29 يونيو 2014م الموافق 01 رمضان 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 6 | 1:31 م

      تحققت نبوء الكاتب عندما قال في مقاله السابق ما يلي:

      صار من الواجب أن يُكرِّر المرء في كل ساعة «كرهه» لـ «داعش» وهواة قطع الرؤوس ومُفجِّري الأحزمة الناسفة ومن يرعاهم، كي لا يُفسَّر موقفه تفسيراً خاطئاً كلما أراد تناول الحالة العراقية بنقد وتقييم، لكن الواقع يقول بأن ذلك قد لا يكون كافياً عند كثيرين مع الأسف

    • زائر 4 | 11:12 ص

      أصبت أستاذي العزيز

      لا بد للإنسان من لحظة تأمل وقياس وحساب
      وان يجعل الله نصب عينيه دوما

    • زائر 3 | 10:25 ص

      هاجس انا لست طائفي

      هناك أشخاص مسكونون بتبرئة أنفسهم من أن يكونوا طائفيين ، وعادة ما يكون ذلك بمهاجمة أبناء طائفتهم ، من يضع المالكي مع داعش في جملة واحدة يعاني من هذا الهاجس.

    • زائر 5 زائر 3 | 1:05 م

      ينطبق عليك يا صاحب الهاجس

      نحن أمة لا تقرأ وعندما تقرأ لا تفهم وعندما تفهم تصاب بالحول الفكري فأي رجاء وامل في مثل هؤلاء؟؟؟؟؟؟؟

    • زائر 2 | 6:37 ص

      احسنت

      احسنت اخي الكريم موضوع ممتاز ويجعل كل من يقرأه يفكر في اسلوب تفكيره الشخصي ! ومثال اخر لخاتم الانبياء محمد ص لو تفكرنا في سيرتت واخلاقه واتبعناها لما حدث ماحدث

    • زائر 1 | 1:17 ص

      التعبير القرآني الذي رفضه المسلمون

      جاءت العشرات من الآيات القرآنية معبرة بلفظة ((الناس)) وليس المسلمين أو المؤمنين للدلالة عن اتساع رؤية الباري جلت قدرته للبشر . ((ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ)) ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ)) ((وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ)) ((رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ)) وغيرها من الآيات

اقرأ ايضاً