العدد 4342 - الأحد 27 يوليو 2014م الموافق 30 رمضان 1435هـ

يُراد لغزَّةَ أن تنسجم مع اليأس

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

لا تتراجع الأمم ولا تنكفئ على نفسها، ولا تصل إلى قناعة بألاَّ مكان لها في حراك العالم، إلا حين يبلغ فيها اليأس مبلغه. «اليأس صنو الموت» بحسب تعبير الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، ذلك المعنى الذي فصّله في «ذاهبٌ إلى العالم... غريبٌ عن العالم» في كتابه «يوميات الحزن العادي»: «ماذا يفعلون باليأس؟ اليأس صنو الموت. لا أريد من العالم شيئاً إلاَّ أن يرفع سكِّينه عن عنقي. لقد كنت رهينة منذ خمس وعشرين سنة في أيديكم، وأطلق اليأس سراحي».

ويراد لغزة التي تذهب إلى الجحيم الاختياري من دون أن تنقص قطرة شرف وكرامة من جبينها المتفصّد بفعل صواريخ العم سام، وبفعل «الفوسفور»، واكتشاف الطرق الأسهل لمحو الحياة هناك. يراد لها أن تقيم حلفاً مع اليأس كي لا تقلق نوم المحتل، ولكي لا تعكّر صفو المستوطنات المغروزة كالخنجر في الخاصرة. تلك المساحة الشبيهة بعلبة السردين التي يتكوم فيها اللحم البشري صارت أسهل الطرق حتى على الأسلحة غير الذكية هذه المرة لتصطاد سكّانها في لمحة غرور فائض، وتهرس اللحم البشري الغض هذه المرة لأطفال لم يتح لهم الوقت الكافي لإنهاء العلاقة مع أرجوحاتهم، والتشمّس على الشواطئ التي لن تكون لها حرمة في عرف الطائرات السمتية والمدفعية التي تمطر من البحر أيضاً!

جرّب العرب الذين تخلّوا بمحض إرادتهم عن فلسطين أن يساهموا في صناعة اليأس تلك. يأس شعب من الحياة والتواؤم والانسجام مع المحتل، والاعتراف بالفضل له - إن استطاعوا إلى ذلك سبيلاً – كي يمنحهم فتات الفائض من الحياة لديه؛ لكن ليس بمحض المصادفة أن يتكرر الموت، وهطول حمم النار على أرض لا يراد لها أن تكون ما تبقى لهم من وطن، ومن سماء لم تعد لهم. سماء تتنزّل بصواريخ القادمين من الجهات الأربع، ولا تاريخ لهم يُعتدّ به في المكان الذي يذبحون فيه يوميات ابن الأرض!

وفي «يوميات الحزن العادي»، الذي لم يعد عادياً كما كان، وخصوصاً بانتفاء العلاقة في الصورة البشرية أيضاً بين الذي يحيا ليقتل، وبين الذي يجب أن يموت بصمت ومن دون ضجة تعكّر صفو العدو ولهوه واستجمامه!

«هم هكذا... يرتكبون الجريمة وينفونها، وحين تواجههم الضحية ينحرفون بالكلام إلى السلام»، السلام الذي يعني في ما يعنيه أن تكون الضحية ودودة وتقبل التنكيل بها عن طيب خاطر وقناعة!

وفي ذلك ما يؤازره في واقع عربي وصل درجة التشبّع في التواطؤ والتآمر على قضية العرب المركزية (فلسطين)، والتي لم تعد كذلك. هذه المرة من المحسوبين عليها، ومن دون اللجوء إلى الاستعارات والكنايات، بل بصريح الفعل قبل صريح النص الذي لا يحتاج إلى أن يكون موزوناً ومقفى كي يحرّك النادر من الإحساس والشعور بهول مكنة الموت التي لا تشبع من حصد الأرواح من دون تمييز، فيما العرب يحضّرون لنسيانهم اللائق بالمأساة!

لذلك لم يكن مفاجئاً للعرب على الأقل، تصريح وزير الدفاع الصهيوني الأسبق، شاؤول موفاز، الذي اقترح أدواراً لدول عربية حدّدها بالاسم لتجريد قطاع غزة من السلاح، بحسب ما نشرته «ميدل إيست مونيتور».

بذلك المعنى، لا يكفي أن تذهب الضحية في مأساتها الطويلة، بل على العرب المساهمة في تجريدها من الأداة البدائية المتبقية لها لصد أدوات العدوان التي تُحدّث الموت وطرقه لحظة بلحظة؛ كي لا يتعكّر هذه المرة أيضاً النسيان لدى أنظمة عربية لن تقدم أو تؤخر الإشارة إليها؛ مادامت منسجمة ومطمئنة لدورها في الإجهاز على الضحية، وتركها هناك رفقة يأس، ربما يُحكم الخناق عليها فينتهي قلق العرب الطويل؛ ولو كان قلقاً اصطناعياً!

لكن ما لم يتعلمه العرب، وخصوصاً أولئك الذين يمارسون هواية تراكم الضحايا في بلدانهم، أنهم (الضحايا) لا يذهبون مع الريح، ومن خلودهم هناك، عند ربهم، يعيدون الاعتبار لهم بأثر الموت الذي كانوا حقول تجاربه، ويعيدون الاعتبار للحياة الناقصة باستحواذ اليأس على زهرتها، ويستفزون أولئك الذين أجلّوا ضمائرهم عقوداً على أمل أن يتحول العدو إلى صديق، فيما بعض الإخوة صاروا يرفدون العدو بأسباب بقائه، ويدلّونه على أقصر طرق الموت وأسرعها كي يذهبوا ثانية إلى ممارسة النسيان!

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 4342 - الأحد 27 يوليو 2014م الموافق 30 رمضان 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً