العدد 4356 - الأحد 10 أغسطس 2014م الموافق 14 شوال 1435هـ

درويش... والحِصَّة من الوطن: قبر

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

بمرور يوم أمس الأول السبت (9 أغسطس/ آب 2014)، يكون قد مضى على رحيل الشاعر الكوني الكبير محمود درويش 6 سنوات؛ إذ توفي في اليوم نفسه (السبت) من التاريخ نفسه والشهر نفسه في العام 2008، بمدينة هيوستن، تكساس، بالولايات المتحدة الأميركية.

في «ثنائية البيت والطريق» تلك التي كتب عنها درويش، في تناوله العذاب الإنساني في مُجمله، وهو يتناول العذاب الفلسطيني في خصوصيته ونموذجيته واستثنائيته أيضاً، كان يُصغي إلى الراهن العربي من حوله. الراهن الذي كان سجناً بسَعَة وحجم الأخطاء والكوارث التي جعلت من الوجود: عدماً، ومن القيمة: هباء، ومن المعنى: اقتناص الغياب والفوضى.

وغزَّة اليوم تُحاصَر بالموت المتنوّع على اختلاف جهات التصنيع له من العالم «المتحضّر»؛ في عزلة وتنكّر عواصم عربية لها، لم يتغيّر من ذلك الواقع قبل رحيله وبعده؛ سوى في تغيّر أقنعة الخذلان، والذهاب في احتفاء بالغ إلى أحضان العدو الذي يصنع ذلك الموت على مرأى ومسمع من العالم. العالم الذي لم يعد عالماً؛ لا بالمعنى المجازي وحده؛ بل بما يدلّ على الحياة فيه، وهو مصابٌ بسعار اختلاق وخلق الموت في أردأ درجاته!

منذ «في حضرة الغياب» والسجّان كما هو، لم يتغيّر، والسجين يحاول أن يفتح كوّةً في هذا الجحيم الذي يُطلق عليه اعتياداً اسم: العالم العربي!

هو المعنى ذاته «لا سجين ولا طليق. فالسجن كثافة. ما من أحد قضى ليلة فيه إلا وأمضى الليل كله في تدليك عضلات الحرية المتشنّجة، من فرط السهر على الأرصفة، حافية وعارية وجائعة».

كأن كل هذه المتاهة التي يبدو ألاّ نهاية لها، ولا ضوء في آخر أنفاقها، هي في ذلك القسط المغيّب من حرية الإنسان، وفي اعتياد اصطياده ليكون رهين إقامة جبرية؛ ابتداء من رحم أمه، وصولاً إلى هوية/ منحة في أوطان تظل مؤقتة، كما هي الحرية مؤقتة فيها!

وفي هذا الموت/ القتل الشائع، لا يمكن النظر إلى حاضر العرب باعتباره حاضراً؛ بل هو في الصميم من الاحتضار الذي بات شائعاً هو الآخر ومألوفاً؛ بفعل اعتياد الخضوع للأخذ بمخلوقات هذا الجزء من العالم ليكونوا مادة اختبار لموتهم الخصوصي، وعلى أيدي الذين تم اعتبار كذبهم كآيات منزلات تعدهم بالخلاص والحرية. ربما هو الخلاص منهم، ومن حرية يتم تفصيلها على مقاسهم؛ تماماً كحرية السجين في التريّض في سجنه الانفرادي!

قبل أن يتوقف قلب درويش في مدينة هيوستن الأميركية، كان يتنفس هواءً مريضاً، ويتلقّى حصته من الضوء أيضاً تحت سماء عربية هي الأخرى مصابة بكل علل وأمراض الدنيا! ولم يكُ غريباً أن يختار الشاعر هذه المرة المكان الذي يموت فيه، في أرض هواؤها يظل نقياً، وضوؤها كذلك، مقارنة بالمغلق والملوّث من كل شيء، في البيئة التي أتى منها ويعود إليها ليأخذ حصته من تراب وطنه بمقاس قبر يأويه!

لكنه لم يأوِ إلى يأسه على رغم كل ذلك. ظل عاهل الأمل وهو يشخّص اليأس، في الشحيح من الفرح أيضاً، والنادر من الأمل «على قبر أبيك، النائم في حضن أبيه، قرأت الفاتحة. وقلت: جاء الآن دوري. مات أبوك بضربة شمس أثناء تأديته فريضة الحج. وأنت تهيئ الآن نفسك للموت بعد الحج إلى قبر أبيك. لا بضربة شمس تموت، فالفصل ربيع؛ بل بضربة قمر».

درويش: هنيئاً لك مغادرة جحيمنا.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 4356 - الأحد 10 أغسطس 2014م الموافق 14 شوال 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً