العدد 4502 - السبت 03 يناير 2015م الموافق 12 ربيع الاول 1436هـ

عبد الرحمن النعيمي: في مسألة الهوّية وتوابعها (1)

عبدالحسين شعبان comments [at] alwasatnews.com

كاتب عراقي وحقوقي عربي

عبدالحسين شعبان

(محاضرة ألقيت في منتدى عبد الرحمن النعيمي، بيروت (20/12/2014)) 

عدت إلى ذاكرتي لأدوّن نتفاً من حوارات متواصلة ومتقطّعة دارت بين الراحل عبدالرحمن النعيمي وبيني، وذلك فيما يتعلق بفكرة الهوّية وتوابعها، وقد استعدت ذلك كجزء من منولوج داخلي بما أفضى به وما استنتجته بصحبة مديدة، أو ما قدّرت أن ما وصل إليه كان النتيجة المنطقية للتطوّر الفكري والثقافي للنعيمي، كجزء من أطروحاته ومواقفه السياسية والعملية، إضافة إلى أبعادها الستراتيجية.

وإذا كانت الهوّية شغل شاغل اليوم، فإن جيلنا أو جزء منه لم يكن يفكّر بما تعنيه، وذلك قبل أن تندلع حروب الهوّيات وكأنها حروب كونية يتخنّدق فيها الجميع ضد الجميع. وكانت العروبة ذات البعد الإنساني تنغمس في بعضنا ومنهم النعيمي والبعض الآخر يجد في الأممية ذات البعد الإنساني أيضاً قد سكنت فيه، وكنت أنا جزء من هذا التكوين، لكنّنا مع مرور الأيام والكثير من الخيبات والمراجعات والنقد والنقد الذاتي، وجدنا التفاعل العميق بين العروبة والأممية، طالما كان بعدهما إنسانياً، إذْ لا يمكن إلاّ أن يكونا كذلك، دون إهمال ما لحق اسميهما من زيف وترّهات واستبداد.

قد يكون مدخل هذا الحوار بين النعيمي وبيني ذا وجه فكري وآخر سياسي في إطار رحب من الثقافة، لكنني سأحاول إعطاءه مسحة تتعلق بالهوّية ومدلولاتها وعناصرها والتحدّيات التي تواجهها، وذلك بتجاوز التعميم والانتقال إلى التخصيص، لاسيّما وأن الأول هو الصخرة التي يتكئ عليه المتعبون إذا جاز القول، إذْ لا يمكن بدون التفاصيل بما فيها الجزئية أحياناً تكوين المشهد العام.

تعامل النعيمي على نحو يكاد يكون عفوياً بخصوص موضوع الهوّية، سواء هوّيته أو هوّية الآخر، فقد كان يشعر أن لا هوّية واحدة له، بل هناك هوّيات متعددة تندغم في هارموني منسجم إلى حدود كبيرة، مثلما لم يجد فاصلاً بين الهوّية المتنوّعة التي تتألف منها هوّيته العامة الجامعة الموحدة، وتحت ظلها تتفيأ، بل وتنعم بالتكامل مع بعضها البعض، مجموعة من الهوّيات، التي تنسج في نهاية المطاف قماشة هوّيته المتكاملة، مثلما تنسج خيوط الهوّيات الأخرى، التي ينظر إليها من موقع الإقرار والقبول.

وإذا كان تيد روبرت جار قد أصدر موسوعة رصد فيها 230 مجموعة ثقافية إثنية أو دينية أو لغوية أو سلالية، فإن أمين معلوف هو من أطلق على صراعات الهوّيات في لحظة انفجارها، ولاسيّما بعد نهاية الحرب الباردة وتحوّل الصراع الآيديولوجي من شكل إلى آخر اسم «الهوّيات القاتلة»، وإنْ كان هو العربي اللبناني الفرنسي، المسيحي ذو الثقافة الإسلامية قد جمع ذلك في وحدة واتساق.

أما وجيه كوثراني فقد تناول في كتابه الموسوم «هوّيات فائضة ومواطنة منقوصة» موضوع فيض الهوّية، أي المبالغة فيها، سواء كانت طائفية أو دينية أو قومية، وسيقابله نقصان المواطنة، أي كلما تضخّمت الأولى فستؤدي إلى انحسار أو ضيق الثانية، وهكذا كلّما غابت المواطنة يستعاض عنها بمفهوم «الرعية» أو «التابعية» التي لا تعني سوى الخضوع، والأمر له علاقة بالتعريف أيضاً فيما يتعلق بهوّية الأغلبية والأقلية والهوّيات الكبرى والصغرى، في حين أن لكل فرد هوّية عامة وهوّية خاصة، مثلما هناك لكل مجموعة ثقافية، دينية أو إثنية أو لغوية أو سلالية، هوّية عامة وهوّية فرعية، في الأولى حيث المشترك الإنساني الوطني أو الديني أو الإثني أو غيرها، وفي الثانية حيث التعبير عن الشعور بالانتماء الخصوصي والتميّز عن الآخر، حتى وإنْ في إطار هوّية عامة، موحّدة.

وكان محمد عابد الجابري قد بحث في كتابه «مسألة الهوّية، العروبة والإسلام والغرب» حيث تناول ثنائية العروبة والإسلام، وكذلك العلاقة بالآخر، وفي دراسة أخرى بحث في العولمة والهوّية بين البحث العلمي والخطاب الآيديولوجي، في حين يأخذ علي حرب بالهوّية المركّبة والمتعددة بوجوهها وأطوارها وأبعادها، وذلك في كتابه «حديث النهايات- فتوحات العولمة ومأزق الهوّية»، خصوصاً وهو يميّز بين مفهوم الهوّية على المستوى الحقوقي والرسمي أو على المستوى الحضاري والمدني، وهو يؤثر استبعاد الصفة الدينية، لأن الإسلام العقائدي من وجهة نظره بشقيه السنّي والشيعي العقائدي والفقهي لا ينتج إلاّ الأصولية الجهادية.

أما حليم بركات في كتابه «المجتمع العربي في القرن العشرين» فيعتبر الهوّية مجموعة من السمات الثقافية التي تمثل الحد الأدنى المشترك بين جميع الذين ينتمون إليها والتي تجعلهم يُعرفون ويتميّزون بصفاتهم تلك... وقد تتطور الهوّية بالانفتاح على الغير وقد تنكمش، وتتمدد وتتقلص... لكنها دون أدنى شك تغتني بتجارب الناس ومعاناتهم وانتصاراتهم وآمالهم، وهذه المسألة تتأثر سلباً وإيجاباً بالآخر.

ويعتبر أدونيس في كتابه «موسيقى الحوت الأزرق (الهوّية ، الكتابة، العنف)» الهوّية ليست معطىً جاهزاً ونهائياً، وإنما هي عمل يجب إكماله دائماً، أي أن التغيير وعدم الثبات هو ما يطبع الهوّية والهوّيات المسبقة، الجاهزة، المغلقة كأنها شيء بين الأشياء: حجر أو فأس أو سيف، وهو ما تريده القوى المتعصبة، أي تبحث في الهوّية ما وراء الإنسان وليس أمامه، لأنها غير قابلة للتراكم والتطور، والآخر عندها لا وجود له أو غائب أو عدو.

وقد سبق لي أن تناولت موضوع الهوّية، من خلال سؤال إشكالي: هل الهوّية أرخبيل مفتوح أم بركة ساكنة؟ وهل هي معطىً سرمدي ثابت أو إنها مفتوحة، أي قابلة للتفاعل والإضافة والحذف تأثراً وتأثيراً بالهوّيات الأخرى؟ وقد سعيت بعد هذا التساؤل للبحث عن جدل أو صراع الهوّيات في العراق، وخصوصاً احتدامها بعد الاحتلال الأميركي في 2003، وذلك في كتابي «جدل الهوّيات في العراق: الدولة والمواطنة»، حيث بحثتها من زاوية هضم الحقوق أو الإقرار بها، وانعكاس ذلك على تبلور موضوع الهوّيات جدلاً، أي تواصلاً وتفاعلاً، وصراعاً بمعنى الإلغاء والإقصاء، أي التباعد والتنافر، أو حتى العزلة والانغلاق، بدلاً من الانفتاح والتداخل.

وفي حوار مشترك بين النعيمي وبيني مع الياس مرقص خلال لقاء فكري انعقد في طرابلس الغرب في أواسط الثمانينيات لمناقشة الأزمة في حركة التحرر الوطني، ضمّ قوميين عرباً بمختلف تياراتهم بما فيهم منظمات المقاومة الفلسطينية وماركسيين وشيوعيين، حيث قاربنا الموضوع من زاوية الهوّية، وتحت سؤال كان ملحاً: هل يمكن إلغاء هوّية الفرد لحساب هوّية المجتمع؟ وقد استكملت الحوار مع مرقص حين اضطرّ المبيت في منزلي بدمشق، لتعذّر حصوله على وسيلة نقل مساءً إلى اللاذقية عند مجيئنا من طرابلس، واستغرق حوارنا ساعات متأخرة من الليل، وكان الرأي الذي اتفقنا عليه، أن مثل هذا الإلغاء سيؤدي إلى إلغاء الهوّية العامة، وهو ما أسماه الياس مرقص الفارق بين عقدة الهوّية والهوّية، فالهوّية حسب مرقص هي للفرد والجماعة والأمة، من خلال اتساق وتفاعل وتوازن ديناميكي ومترابط، ولذلك بنى نظريته للديمقراطية على الفرد الحر المستقل «أنا أفكر» لا بوصفه نقيضاً لـ «النحن» بل بالتوافق معها، على أساس الموقف من المعرفة والاعتراف بالكائن الفرد، وكذلك من خلال المجتمع المدني باعتباره يمثّل كينونة المجتمع.

كان عبدالرحمن النعيمي حتى دون أن يعبّر هو عن نفسه يتصرف باعتباره جامعاً لهوّيات متسقة في إطار هارموني حيوي، فهو عربي ومسلم وبحريني ومتعدّد الانتماءات لسرديات عاش تفاصيلها وكان يشعر أنه جزء منها، وتعتبر هوّيته خلاصة مكثّفة لوجدانه الإنساني ومكوناته الثقافية.

كنتُ قد لمست ذلك منذ أن تعرّفت عليه في عدن قبل 40 عاماً، وكان عائداً من ظفار حيث كان مشاركاً في الثورة الظفارية، حتى اعتقدت لأول وهلة وأنا أتعرّف على سعيد سيف، الاسم الأثير الذي لا نتذكر النعيمي إلاّ مع رديفه (سعيد سيف) إنه عُماني وقد يكون من صلالة، لكنني عرفت فيما بعد إنه من البحرين.

كان عندما يتحدّث عن ظفار ينغمر بأدق التفاصيل، لدرجة أنك لا تشعر إلاّ وهو جزء من الشعب العُماني، وليس مشاركاً بثورة لمجموعةٍ من الحالمين في ظرف ملتبس وعصيب، حتى إن هوّيته العُمانية وهو يروي لي الحياة اليومية والتعامل مع الناس البسطاء، كانت طاغيةً، وهو شعور جيفاري طافح، تملّك الكثير من الثوريين آنذاك، في تجلّيات طهرية ونظافة فكرية، لم تلوّثها عاديات الزمان التي لعبت لا في العقول فحسب، بل امتدت إلى النفوس وتكرّست على نحو مريع، مترافقة مع تراجعات وانكسارات في المشاريع التنويرية العروبية واليسارية.

كنت مع النعيمي في رحلة الصداقة والحرف والحق، دائماً ما أطالبه بأن يضع تجربته على الورق، وخصوصاً الظفارية، اليمنية لاحقاً، والممهورة في كل الأحوال بفلسطين المُملحة بالخليج والمسكونة بالبحرين، ولا يمكن للبنان المقاومة والجمال أن يكون بعيداً عنها، وفي ذلك تندغم هوّياته المتعددة في إطار هوّية موحدة، أما هو فكان يطالبني بوضع تجربة الأنصار الشيوعيين على الورق أيضاً، وعندما اطّلع على خلاصات أولية لحديث لي في محاضرة بلندن والموسومة «بعيداً عن أعين الرقيب» طلب طباعتها، وكتب هو كلمة باسم الناشر «دار الكنوز الأدبية» على غلافها الأخير، وكان ذلك في العام 1994.

وجاء في كلمته «ينطلق الدكتور شعبان من رؤيته للمستجدات وانعكاساتها على المناضلين والمثقفين، ويرى أهمية إلغاء الحجاب عن حياتهم ليتعرّف الناس على حقيقتهم وتكوينهم وينابيع ثقافتهم، ويحكموا عليهم وعلى أهليتهم في المشاركة في الحركة السياسية والفكرية في المرحلة الراهنة واللاحقة، ناهيكم عن قيادتها. من العراق إلى المنفى، ومن السياسة إلى الثقافة... يسجل د. عبد الحسين شعبان تجربته بشجاعة كبيرة، هل أفلح أبو ياسر، أين أخطاً.. أين أصاب؟ سؤال يجيب عليه القارئ وحده».

كان إلحاحي عليه بتدوين فصول تجربته يزداد كلما شعرت أن الزمن يمضي، على الرغم من أن الماضي لا يمضي حسب السيد هاني فحص الذي غادرنا مؤخراً وهو يروي حكاياته عن النجف، وقلت له يومها ذلك بعد أن كنت أحرّضه على أن ترى تلك الذكريات النور، وبعد أن شقّت طريقها في كتاب «ماض لا يمضي»، قلت له إن هناك وجهاً آخر للنجف، حيث يعيش فينا ويتغلغل بين ضلوعنا ونحن لازلنا نتنفسه في كل ما حولنا، وهو ما وجد طريقه إلى عنوان كتاب لمناضل كبير اسمه صاحب الحكيم الذي اختار عنواناً لمذكراته «النجف الوجه الآخر».

وكان هذا عنوان محاضرة لي في الكويت والجامعة اليسوعية في بيروت بتحريض من الصديقين جهاد الزين وحامد حمود العجلان، حين تحدثت عن حلقات اليسار والمواكب الحسينية والقصائد الحمراء وقرّاء المنابر وبعض ثنايا الحوزة والحضرة الحيدرية وبعض كادرها الشيوعي، وعن النساء النجفيات والجمال النجفي والعلاقات الاجتماعية والوافدين ومدرسة الخليلي والاختلاط بأمم وقوميات ولغات، والتعايش الإسلامي، العروبي، الأممي، الماركسي، وعن «الفكر المنفتح في المجتمع المنغلق» حسب السيد مصطفى جمال الدين، وصورته الأخرى «الانغلاق الظاهر» و»الانفتاح الباطن» أو المحافظة الشكلية والتقدمية الجوهرية. (يتبع).

إقرأ أيضا لـ "عبدالحسين شعبان"

العدد 4502 - السبت 03 يناير 2015م الموافق 12 ربيع الاول 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 2:48 ص

      لو كان عروبي

      لو كان عروبي لما قبل ان يتحالف مع من وقف ضد العراق العربي في حربه ضد الفرس

    • زائر 1 | 11:45 م

      اسئلة مشروعة

      كيف نجمع بين الوطنية الملتزمة بحدود الدولة و بين القومية العابرة لها ؟ كيف نجمع بين الهوية الانسانية التي تدعو إلى المساواة الفعلية و الأدبية و بين الهوية القومية التي في أقل الاحوال تتضارب مع المساواة الأدبية ؟ ألا تعبر هوية الدولة القومية عن اهانة لبقية القوميات في الدولة لا تتناسب مع الانسانية ؟

اقرأ ايضاً