العدد 4508 - الجمعة 09 يناير 2015م الموافق 18 ربيع الاول 1436هـ

وحوش الشد الطائفي

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

عندما يريد أحدٌ أن يبني له داراً فعليه أن يفعل الكثير. أن يجمع المال، ثم يشتري الأرض، ثم يبحث له عن مهندس، ثم شركة إنشاءات، فضلاً عن عشرات المعاملات والمتابعات اليومية والمتلاحقة. يستمر هذا الحال لعدة أشهر وفي أحيان كثيرة لسنوات.

في المقابل، لو أن الشخص نفسه، أراد أن يهدم داراً له، فكم هو الوقت الذي سيتطلبه ذلك؟ ربما يوماً أو يومين في حدٍ أقصى. هذا يعني أن ساعة البناء هي ضعف ساعة الهدم بـ 180 مرة! أما إذا احتسبنا التكلفة المالية، فهي لا تُقارن بين بناء البيت وهدمه. فهي تصل إلى مئة وأربعين ضعفاً!

السبب في وجود ذلك البَوْن الشاسع بين البناء والهدم، هو أن مَنْ يروم البناء، هو يتوخَّى الحذر في كل شيء، بدءًا من المقاسات ومروراً بكثافة المواد الإسمنتية، لتحديد درجة التصلُّب والتماسك، وذلك لتشييد بناء قادر على مواجهة التأثيرات الطبيعية والبيئية، فضلاً عن مراعاة صورة المنزل الجمالية، عندما تُوضَع اللمسات الأخيرة على جدرانه.

أما مَنْ يقوم بالهدم، فهو لا يُراعي أيّ شيء من ذلك. هو يطمح فقط في أن يَهدّ المبنى، ويُسوِّيه بالأرض. فلا مقاسات يهتم بها ولا تأنٍ ولا حاجة له لِلَمسات ديكورية يضعها على صورة البيت، ولا هم يحزنون. أقصى ما يتطلبه الهادِم هو ألاَّ يُصاب هو بسوء، عندما تنهار الجُدُر على الأرض، وتتكسر حجارتها، فيتقافز عن غبارها.

أذكر هذه المقدمة، كي أخلص إلى أن نتيجة تفيد، بأن هذا الفارق الكبير، بين الهدم والبناء، هو ما ينطبق تماماً على الحالة الطائفية (التقريب والتفريق/ التعايش والتناحر)، التي باتت كالجائحة التي تغطي منطقة جغرافية تمتد من الأطلسي وحتى تخوم الجنوب الآسيوي، مخلفة وراءها صراعات مفتوحة لا تنتهي، وحياة اجتماعية أكثر تفسُّخاً.

تُعقَد مؤتمرات للتقريب بين المذاهب الإسلامية أو الحث على التعايش فيما بينها، ويتداعي العلماء المخلصون والمفكرون من أهل الحصافة من كل مكان، ثم يأتي طائفي أعمى ليشتم رمزاً دينياً أو شخصيةً تاريخيةً يؤمن بها مئات الملايين من الناس أو يُكفِّر مِلَّة، ليُحمِّي العواطف أو يحرقها، فينتهي كل شيء، وكأنها نارٌ تأكل في الهشيم.

ذلك الطائفي يفعل ذلك وكأنه يحرق بستاناً من الزرع المتراصّ والمثمر، بعد أن احْدَوْدَبَت ظهورٌ على سَقْيِهِ والاعتناء به. وما أبعد الجهد ما بين الحِراثَة في الأرض زرعاً وغرساً وكسباً، وبين أن يُشعِل حاقدٌ فيها النار، فتأتي على كل ذلك الخير، ولتُمحِي سنيناً من العمل. هذا هو المشهد الحقيقي للمذهبية البغيضة.

اليوم، هناك مِضَخَّتَان للطائفية في عالمنا. واحدة لبعض الأنظمة التي تستفيد منها لتحقيق أغراض سياسية (وهي معروفة)، وأخرى لأبواقٍ تستخدم الجَهَلَة والدهماء لا يُظَنُّ بها إلاَّ السوء. كيف؟ فنحن نسألها إن كانت قناة فضائية عن أموال إيجار القمر الصناعي وميزانية الأستوديو ومعدات البث وكامل قوام التنظيم والأصول مع غياب عنصر الاستثمار فيها.

من أين تأتي كل تلك الأموال، ومن أيِّ قناة بَنْكِيَّة تتدفق؟ أغلب تلك القنوات تتذرع بالتبرعات، في حين أن المصبّ الأكبر في موازناتها هو من مجرى آخر غير مرئي! وبالتالي فإن القضية هي عبارةٌ عن ماخور لا يُعلَم ما بداخله، سوى أن التوجُّه العام والتفصيلي لتلك القنوات هو فصل الأحداث التاريخية عن سياقاتها وإسقاطها على واقعنا الحالي.

قبل أشهر، قامت الـ «بي بي سي» بعمل حلقة خاصة عن القنوات الطائفية رصدت «ستاً هي الأكثر تطرفاً» كما أسمته. أتذكر أن مُعِد البرنامج سَأَل أحد القيِّمين على واحدة من تلك القنوات على وجه السرعة: خطابك المذهبي يُثير مشاعر شباب يسفكون الدماء! فما كان منه إلاَّ أن استدار ليسحب باب سيارته وهو مكفهر الوجه وغادر المكان!

شخص آخر، ممّن له قناة فضائية مماثلة في الجهة الطائفية الأخرى، عندما وُوجِهَ بسؤال مماثل بأنك سبب في سفك الدماء في العراق، ضحك بقهقهةٍ كأن فيها سخرية وقال: لا تعليق لدي، ثم انصرف وكأنه يهرب من الحقيقة.

هؤلاء بالتأكيد لا يُحسُّون بالأمهات ولا بالآباء الذين يفقدون أبناءهم وهم في عمر الزهور، في العراق وسورية وباكستان وأفغانستان وفي غيرها من البلدان، لأن أبناءهم ليسوا هناك بل معهم، ويتعلَّمون في أفضل الأمكنة، في لامبث وساوث وارك وكنغ ستون وفولما وغيرها، لا يمسّهم سوء، أما الآخرون، فهم وقودٌ لسفاسفهم وتحريضهم الأسْوَد. هل عجزت ضمائرهم من أن تتلمّس بكاء أب وهو ينفخ في فم ابنه المسجَّى في ثلاجة الموتى في بغداد عَلَّه يرجع إليه؟

120 قناة دينية تبث للعالم العربي منها 20 شديدة الطائفية حسب الاستقصاء الذي استمر لستة أشهر متواصلة، تلعب على القاتل والمقتول، وهي تُحملِق في دمائهم وهي تُسفَك، ثم يعود المحرّضون إلى بيوتهم ليناموا مع أسَرِهِم، دون أن يسمّهم خدش ولو صغير.

المشكلة الخطيرة الآن هي أن تلك المجاميع المشبوهة تريد نقل المعركة الوهمية إلى حيث الجماهير. هي تعلم، أن رمي القضايا الخلافية والتاريخية في التيار العام يعني أن الكوابح فيه معدومة، وهي بالأساس لا تريد كَبْحاً في ذلك الانزلاق، بل تريد فوضى لا حد لها، لأن هدفها الأساس هو أن يخرب كل شيء. ومَنْ يَرِدْ لأمته أن تنغمس في الخراب فهو بالتأكيد لا ينتمي إلى أمته. والسلام.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4508 - الجمعة 09 يناير 2015م الموافق 18 ربيع الاول 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 10 | 2:28 م

      مراجعة

      الاستاذ كاتب العمود الاخوة القراء و المعلقين ياليت مراجعة للكتب وسيتضح من يدعو الى القتل ومن يدعو الى النصيحة ( يا ثارات الحسين) اعتقد هي ليست عبارة للمحبة و التسامح واطلب من الاخوة عبارة للسنة تدعو للثأر

    • زائر 12 زائر 10 | 3:23 م

      .....

      يالثارات الحسين ليس شعارا غامضا ولا ضلاليا
      فأي قارئ للتاريخ ..يعلم ان الأخذ بالثأر ممن قتل وسفك دم ابنة رسول الله .ص.
      وممن هو على نهجهم
      عجبا منك

    • زائر 8 | 2:38 ص

      محب الوطن القنوات الدينية كشفت حقيقة الاختلافات المذهبية للكل والصراع المزمن 1030

      صباح الخير المؤتمرات الإسلامية ماهي الا دعاية وهدر للمال والوقت لانها لا تقترب من أساسيات المشكلة وهي الكتب المعتمدة للتيارات الإسلامية أما المجاملات والابتعاد عن ماهو موجود في بطون الكتب الأساسية لهذه التيارات نبقى في دائرة مفرغة الحل ليس سهلا لاكن يجب إيقاف الفتنة والاقتتال حتى لو تزعزعة أركان بعض التيارات المذهبية

    • زائر 7 | 2:28 ص

      من الباديء

      امامنا ابو بكر الصديق وابنته زوجة اطهر الخلق عليه الصلاة والسلام لم يسلمون من الشتم والسب وسب العرض والاتهام بالزنا ....................

    • زائر 11 زائر 7 | 2:34 م

      من البادىء

      حسب علمي ان اول من سب و شتم كان رسول الله في بداية البعثة من قبل الكفار و اتباعهم من الجهلة و قد تم ابتداع السب و الشتم بعدها على على عليه السلام و بعدها تم ليس فقط السب بل التنكيل بأهل بيت الرسول و صار سبهم و على الخصوص على بن ابي طالب ابن عم الرسول و اخوه سنة متبعة على المنابر و بعدها من الطبيعي ان يخرج البعض القليل من الناس بالرد على الذين يسبون ولكن بنفس طريقتهم و البقية نمت عبر التاريخ.

    • زائر 6 | 2:25 ص

      وحوش الشد الطائفي و القنوات الطائفية ليست مشكلة خطيرة

      المشكلة الخطيرة الحقيقية هى عقائد التكفير و استحلال الدماء، وتفريق الأمة بين رافضي صفوي و وهابي ناصبي ، المنتشرة في دور العبادة وكتب العقائد والحلقات العلمية! و هي ليست وليدة هذا الزمن. الفرق أنها كانت مخبأة مكتومة؛ و الآن ظاهرة للعيان، لا يُخجل منها. فالطائفية ليست إلا نتيجة ؛ و ليست هي الغول المتسبب. أما أجهزة استخبارات فهي لم تصنع هذه المشكلة؛ بل استغلتها أكبر استغلال لمصلحتها. المتسبب الحقيقي الذي قسَّم الأمة، و القادر على حل هذه المشكلة هم العلماء و المراجع فقط! فقد وقف الزمان عندهم!

    • زائر 5 | 2:19 ص

      لم نعرف الطائفية الا

      لم نعرف الطائفية الا بعد العام تسعة و سبعين عندما بدأت ايران في اثارت النعرات الطائفية و للأسف تبعتها بعض الأقليات التي توالي ايران

    • زائر 9 زائر 5 | 7:15 ص

      الشحن كان موجود سابقا

      الشحن ضد الاخرين كان موجود سابقا و كان ايام عبد الناصر ضد القوميين و العروبيين و الشيوعيين لأن هذه الدول كانت مصدر خطر على بعض الحكومات. بعد الثورة الاسلامية في ايران صار الخطر الداهم هو ايران و بالطبع كان التوجه ضد الشيعة حتى تحصن الحكومات نفسها بالغطاء السني. لكن بالرغم من العقوبات الدولية على ايران و الحروب الممولة من تلك الحكومات فإن ايران تقدمت علميا و تقنيا و نفوذا دوليا و هذا بالطبع اضاف زيت لنار الطائفية التي كانت مشتعلة اصلا.

    • زائر 4 | 1:37 ص

      كلام جميل

      كلام جميل جدا وفيه نسبة كبيرة من واقع نعيشة للاسف ممكن نعرف عدد قنوات الي تحرض علي طائفية وسب الاخر لكل طائفة في عالم اسلامي !!!!!

    • زائر 3 | 1:29 ص

      محب الوطن المشكلة ليست في القنوات الدينية 0915

      صباح الخير القنوات الدينية ماهي الا ترجمة لما هو موجود أصلا في أمهات كتب التيارات المذهبية المكفرة لبعض والرموز الدينية التاريخية وهذا هو السرطان المسكوت عنه والأدهى هو ما يدرس وينشأ عليه رجال الدين المختلفين مذهبين هذه الكتب تعتبر أعمدة الطوائف الإسلامية المتناحرة يتبع

    • زائر 2 | 1:15 ص

      لقد ابتلينا بالجهلاء وندرة العقلاء وحالنا ينطيق علينا قول نصر بن سيار

      أرى تحت الرماد وميض جمر ويوشك أن يكون له ضرام
      فإن النار بالعودين تُذكى وإن الحرب مبدؤها كلام
      فإن لم يطفها عقلاء قوم يكون وقودها جثث وهام
      ندمت، ولات ساعة مندم!!

    • زائر 1 | 10:33 م

      الزمن الردي

      أوافقك الرأي أبو عبد الله لقد ابتلينا بأكبر المصائب في هذا الزمن الردي وهو الطائفية التي تغذيها العصبيات المذهبية وأجهزة استخبارات بغية اغراق المنطقة في الفتن والحروب

اقرأ ايضاً