العدد 4576 - الأربعاء 18 مارس 2015م الموافق 27 جمادى الأولى 1436هـ

عيد للبكاء!

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

لو سأل كلُّ واحدٍ نفسه: هل لي الحق في أن أملك كل شيء؟ بالتأكيد، فإن الجواب سيأتي لا. فلا القدرة البشرية تسمح ولا منطق الحياة كله يمكن أن يمنحنا ذلك حتى ولو كنا نملك مالَ قارون كله، فضلاً عن عدم الحق في أن نستحوذ على كل شيء، والسبب بسيط جداً وهو أن هذه العالم وما فيه، هو عبارة عن حَيِّز يجب أن يتسع لكل الموجودات.

هذا الأمر يجعلنا نفكِّر فيما هو أبعد من ذلك التوصيف المادي للحياة إلى حيث السلوك والعواطف والقضايا اللفظية والمعنوية. إذْ لا يحق لأيٍّ كان أن يمتلك المشاعر «البهيجة» ويُمَلِّك الآخرين المشاعر «الكريهة». أن يكون ضاحكاً وغيره باكياً خصوصاً في المجال العام، الذي يتشارك فيه الجميع ولا خصوصية لأحد فيه كالشارع والمدرسة وغيرهما.

أقول هذا الكلام متعمِّداً خصوصاً وأننا على أبواب مناسبةٍ تحدثتُ عن «نهيِها الاجتماعي» في وقت سابق وأصِرُّ على تكريسه مرةً أخرى، لأن البعض مازال يُغمِض عينيه عنها، وكأنه لا يسمع، لا يرى، لا يتكلم.

إنها مناسبة الاحتفال بعيد الأم، والذي يجري عادةً في أماكن عامة ومفتوحة، حيث يُسمَّى يومٌ له وتصدح الأصوات بالنشيد في الباحات، وتُنتَقى العبارات الدافئة المليئة بالمشاعر، والمُصوِّرة للأمومة، تحت عنوان التكريم والاعتزاز بالأم (التي هي مُقدَّرة مكانتها بحصوله أو بعدمه مادامت الجنّة تحت قدميها).

سبب «النهي الاجتماعي» لإحياء تلك المناسبة، أنها تجري في الفضاء العام، الذي يحضره مَنْ له أم، ومن ليس له أم بالسواء وهو ما يعني أن جانباً من الاحتفال هو فرحٌ وضحك للبعض، وتَرَح وبكاء للبعض الآخر، وبالتالي فهو عيد غير محبب لجزء مهم من البشر، ممن تمنع أنانيتنا رؤيتهم وهم يبكون لا فرحاً بل ألماً وحزناً على أعز ما فقدوه وهو الأم!

الحقيقة، أن مثل هذا الاحتفال السنوي، هو كمن يأتي بوليمة أكل دسمة بشرابها البارد أمام أعين أسير مقيَّد الأيدي، لم يأكل منذ أمَد وبطنه يتلوّى من الجوع ولسانه قد نشّفه العطش، ينظر للحاضرين وهم يأكلون طيب الطعام وتتلمّظه حلوقهم وهو لا يستطيع سوى النظر إليهم بحسرة. هذا بالضبط ما يُشاهده فاقدو الأم سواء باليُتم أو بغيره، حينما يتداعى الجمع بالكلمات والهدايا في محفل عام ويُظهِرون المشاعر الجيّاشة.

مشكلتنا تكمن في أننا لا نرى الأشياء جيداً؛ والسبب أن الشبعان منا يعتقد أنه لا يوجد جوعى من حوله، فتراه يأكل دون تفكير ولا اكتراث في أحد. ومَنْ له وَلَد يعتقد أن الجميع لديهم أولاد فتراه يتحدث عن الوَلَد دون إحساس بالآخر، وكذلك الحال مع مَنْ لديهم صحة أو مرض، أو مَنْ لديهم مال أو يَسَار عَيْش، وبجانبهم مَنْ يعيش في عُسر الحياة.

هذا الأمر ينطبق أيضاً على «البعض» ممَنْ لديه أمٌ ويعتقد أن الجميع لديهم أمهات يلوذون بهن عندما تطيس الدنيا عليهم بحوافرها، فتراه يتفنَّن في تصوير غُنْجه معها وحنانها عليه، في مأكله ومشربه ومرضه وانتظاره وسَهَرِه، وهو أمرٌ فيه استخفاف بمشاعر المكلومين، لا يجب أن يفعله مَنْ له قلب طيب ومُداراة ويعرف معنى «القياس على النفس».

هؤلاء لم يُجرِّبوا أن يكونوا بلا أمَّهات، لأن القَدَر كان إلى جانبهم، لكنهم «قد» يفقدون ما عندهم اليوم (لا قدَّر الله)، وتمرّ عليهم مثل هذه المواقف الاجتماعية والعاطفية الحرجة، حينها «فقط» سيعلمون حجم المأساة والضَّرر الذي كانوا يُوقعون الآخرين فيه بعلم أو بغير علم. وسيستشعرون كل لحظة فعلوا فيها ذلك ليكتشفوا كم من قلب أدموه.

إنها لحظةٌ مهولةٌ على الطفل، حين نتفنّن في إيذائه «بتذكيره» فقدان أمه! نعم إنها شماتة غير مباشرة به لكنها قاتلة له، وهو الذي لا كافل له ولا مُشفِق، ينام بدموعه ليالٍ طوالاً دون أن يمسحها عن وجنتيه أحد. فاقد لحنان صَدْر لا يجاري مُتَّسعه شئ، فيرى الدنيا ضيِّقة على خناقه حتى لو رآها الآخرون رحبة كبيرة. ثم نأتي نحن فيما نُسمِّيه عيد الأم لنزيد ألمه بوضع الملح في جرحه ونَكْأه ونحن نحتفل بجانبه عن شيء ليس لديه.

لقد وجدتُ في كتب العارفين باللغة والأخلاق، أن اليُتم يُطلق حتى في حالة البهائم حين تفقد أمهاتها كما يذكر الفخر الرازي. وهو أمر جدير بالتأمُّل، حين يُلتَفَت للبهيمة الفاقدة لأمها فتُعطَى وصفاً وعناية خاصة، مراعاة لمشاعرها، في حين نتجاهل نحن البشر بعضنا، على الرغم من أن الإنسان يفوق إحساسه إحساس البهائم، متجاهلين النواهي المُغلّظة التي وردت في الشرائع الأرضية والسماوية حول مراعاة اليتيم.

بل إن حضارات العراق القديمة، التي جاوزت آلاف السنين، قد قرَّرت في تشريع أورنمو بنداً قانونياً خاصاً «يمنع وقوع اليتيم فريسة للثري» كما ورد، فكيف بنا ونحن في هذه القرون التي من المفترض أن تكون فيها الإنسانية قد خَطَت إلى الأمام في حفظ الحقوق ومراعاة الآخر.

الأمل كل الأمل، أن يُراعى هؤلاء وأن يُمتَنَع عن إيذائهم، فهم بحاجةٍ إلى السعادة أكثر من الحزن، بل وقابليتهم لأن يكونوا سعداء أكبر من غيرهم وعلينا مساعدتهم في ذلك. فـ «مَنْ سبق له الإحساس باليأس المطلق هو الوحيد القادر على الإحساس بالسعادة المطلقة» كما كان يقول الروائي الفرنسي ألكسندر دوما الأب.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4576 - الأربعاء 18 مارس 2015م الموافق 27 جمادى الأولى 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 20 | 6:14 م

      عيد حزين للاخرين

      لمن فقدها لاتحزن فروحها الطاهره تحلق حولك تشجع فانك بقلبك كل عيد وجميع الامهات الاحياء والاموات بخير

    • زائر 19 | 9:04 ص

      مقال مؤثر

      يمكن للمرء أن يحتفل بهذا العيد على نطاق أسرته ...لا في المحافل والمدارس ..يكفي الطفل يتمه وحسرته ..

    • زائر 18 | 8:22 ص

      لا نمنع العالم ان يحتفي بالام

      لكن ستكون هناك ختم للقرآن لأرواح كل الأمهات
      هذا العام رحلت اختي وهي الحريصة ع احياء يوم الام وباتت صغيراتها دون أم ويوافق ميلادها عيد الام كيف هي مشاعري

    • زائر 17 | 8:17 ص

      عيد الاسره

      ليسمونها عيد الاسره فقط ويلغوا عيد الام احتراما لمشاعر المحرومين الله يكون قي عونهم

    • زائر 15 | 6:06 ص

      نعايد

      نعايد الى جميع امهات الشهداء ونقول اليهم الله اصبركم على هادى المحنه لفقد ابنائكم الشهداء ونسئل الله ان ياخد حقنا ممن ظلمنا

    • زائر 13 | 4:02 ص

      الحالة المادية

      لا ينكر الجميع بحق الام ف التكريم نضير ما تقوم به طوال السنة ولكن هناك عائق يحول دون تكريم الام وهي الحالة المادية التي يعاني منها أغلب الاسر وهنا تكمن المشكلة من أن البعض يستطيع والاخرون لا يتمكنون من شراء الهدية المناسبة فهذا أحد أسباب امتناع البعض من أقامة الحفل السنوي لتكريم الام.

    • زائر 16 زائر 13 | 6:29 ص

      فيلسوف العصر

      خف علينا يافيلسوف زمانك

    • زائر 12 | 3:37 ص

      ونعم التوضيح

      ياريت والدتي على قيد الحياة افتقدها كثيرا وانا اكتب ودموعي تبكيها قمت بواجبي معها قصرت كثيرا لو كانت موجودة معنا لما قلت لها لا الف مرة افتقدها في عيد الأم واشارك الراي فيما ذكرته في مقالك والله يحفظ امهاتكم ويطول في أعمارهن رحمك الله ياوالدتي العزيزة

    • زائر 9 | 1:08 ص

      يمكنهم اقامة فاتحة

      لماذا لا يقوم من فقدوا امهاتهم باقامة مجلس فاتحة لارواحهم وستكون افضل وانفع للاموات من الوردة للأحياء؟
      اما ان نحرم من له ام بتكريم امه فهذا خطأ فادح رغم اني لا ارى بأن تكرم الام في يوم في السنة فقط فهي تستحق التكريم طوال العام

    • زائر 11 زائر 9 | 1:40 ص

      واحسرتاه على هذه القلوب القاسية

      لفظة ((لماذا لا يقوم من فقدوا امهاتهم)) معناه أنك تقول لهم عيشوا في همكم ودعونا نفرح بفرحنا!! استكثرت على اليتيم حتى مشاركتك له في حزنه فضلاً عن مواساته بعدم اهانته في أدق الامور عنده وهو فقد الام! واحسرتاه

    • زائر 7 | 12:56 ص

      المداراة ضرورة

      أوافق تماماً في ضرورة مراعاة مشاعر فاقدي الأمهات( و أنا أمر بعامي الأول من فقد أمي الغالية ) لكن لا يعني هذا أن نحرم الأمهات من بهجة الاحتفاء بهن، و لا حرمان الأبناء من تنمية الإحساس و التقدير للأمهات، يكفي أن يحتفلوا بتعقل، بعيداً عن المباهاة و التفاخر أمام الآخرين.

    • زائر 6 | 12:40 ص

      حديث مؤثر عن اليتيم

      جاء عن الإمام الصادق عليه السلام: "إذا بكى اليتيم اهتزّ له العرش، فيقول الله عز وجل: من أبكى عبدي الذي سلبته أبويه في صغره؟ فوعزّتي وجلالي وارتفاعي في مكاني لا يُسكِتُه عبدٌ إلاّ أوجَبتُ له الجنة"

    • زائر 10 زائر 6 | 1:24 ص

      من وين

      حديث قدسي موضوع تأكد قبل أن تروي الأحاديث القدسية

    • زائر 14 زائر 6 | 4:20 ص

      نعم انا متأكد قبل ان اضعه

      الحديث مذكور في الوسائل للحر العاملي في الجزء 14 في باب استحباب اسكات اليتيم إذا بكى تحت رقم 27543

    • زائر 5 | 11:55 م

      المفروض أن يجعل إلى الأيتام أن يشركون في هذا اليوم (يوم الأم)

      كم أم ابنها في غياهب السجون تنظر أن يأتيها بوردة او هديه

    • زائر 4 | 11:39 م

      انتصار رضي

      سحقا لهذه الفعالية التي تجعلني أصفق كالبلهاء للأمهات وأنا بلا أم

    • زائر 3 | 11:24 م

      وهناك ايضا يتم احياء هذا الحفل وهو أمر خطأ

      مع شديد الاسف أن عيد الام يتم تفعيله في المنتزهات والمجمعات وهو ما يؤثر على روح الاطفال اليتامى أو أبناء الاسر المطلقة ويعيشون مع آبائهم

    • زائر 2 | 11:21 م

      احسنت وبارك الله فيك

      مقال جميل جدا وحساس ومؤلم للقلب . أشكرك دائما على مثل هذه المواضيع الاجتماعية التي تبدع فيها كما هو في غبداعك في التحليل السياسي

    • زائر 1 | 10:13 م

      كل من عليها فان

      حب لغيرك ما تحبه لنفسك...نكران الذات في سياق السعي لإسعاد الآخرين في زمننا المتوحش هذا قبل أن نسعد أنفسنا هو حقيقة تؤدي الى سعادتنا....أما عن موت الأم فهو من أعضد العلل لأنها ببساطة مؤشر لفنائنا...وهو أمر حتمي. البعض منا لا زال يظن ان الدهر لن ينتهي به...بني البشر عوده سقيم.

اقرأ ايضاً