العدد 4585 - الجمعة 27 مارس 2015م الموافق 06 جمادى الآخرة 1436هـ

الحيوية اللغوية بين الانعزال الجغرافي والعزلة الاجتماعية

يولد كل شخص ويبدأ بتعلم لغة أو لهجة آبائه، ويرتبط بها، وتصبح جزءاً من هويته، فإذا ما تعرضت هذه اللغة أو اللهجة لضغوط خارجية تحاول تغييرها، فإن الارتباط بين هذه اللغة والهوية يصبح أكثر قوة. فلذلك تستخدم لغة أو لهجة أي جماعة عرقية كعلامة للهوية العرقية لهذه الجماعة، كذلك فإن لهجات الجماعات الفرعية، التي تفرعت من جماعة عرقية معينة، تستخدم أيضاً كعلامة للهوية العرقية المتفرعة؛ ذلك أن كل جماعة فرعية تبدأ بتكوين هوية جديدة فرعية. هذا، وهناك علاقة ارتباط شديدة بين نمو وتطور الهوية ونمو وتطور اللهجة. وعلى مدى الزمن، تبدأ ظهور نسبة تفاوت في الاستعمال الداخلي للهجة بين أفراد الجماعة، وهذا ما يعرف باسم «حيوية اللغة» وهي القوة الداخلية لحضور اللهجة بين أفراد الجماعة. وهذه القوة الداخلية تعكس قوة ترابط الجماعة العرقية.

بحسب الدراسات التي نشرت حول اللهجات في البحرين، والتي تناولناها بالتفصيل في سلسلة مقالات سابقة، فإنه يمكن تمييز لهجتين أساسيتين في البحرين، لهجة العرب، ذات الامتداد القبلي، ولهجة البحارنة، ذات الامتداد الحضري. يذكر، أن هناك تباين بسيط في لهجة العرب، مقارنة باللهجة البحرانية الشديدة التباين، والتي نتج عنها العديد من اللهجات الفرعية التي تنتشر في العديد من مناطق البحرين. اللهجة البحرانية، نفسها، هي إحدى اللهجات المتفرعة من اللهجات الحضرية التي تنتشر في شرق الجزيرة العربية ودولة الإمارات العربية وسلطنة عمان. فلذلك، تصبح دراسة ديناميكية تكون اللهجات الفرعية والعوامل التي تؤثر فيها، جديرة بالاهتمام؛ لأنها تعكس تطور الجماعة الحضرية وديناميكية تكون القرى في البحرين.

اللهجة البحرانية هي لهجة لجماعة عرقية حضرية تطورت وانقسمت على نفسها وكونت لهجات عرقية فرعية، وكل لهجة فرعية أخذت في التطور بصورة مستقلة عن الأخرى. وهناك العديد من الدراسات التي خصصت لدراسة هذا النمط من التطور في اللهجات، وربما من أهم تلك الدراسات دراسة Giles, Bourhis and Tylor التي نشرت في العام 1977م تحت عنوان «Towards a Theory of Language in Ethnic Group Relations». في هذه الدراسة تم التركيز على ثلاثة عوامل تؤثر في تنوع اللهجات الفرعية وبقاء واستمرارية اللهجة، وأهم تلك العوامل تلك التي ترتبط إما بمكانة المجموعة العرقية في المجتمع أو بالعوامل الديموغرافية.

اللهجة والعوامل الديموغرافية

ذكرنا في الحلقة السابقة أن غالبية القرى في البحرين تكونت بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر الميلاديين، وأن هذه القرى، وبسبب تأثير المؤسس، كانت متباينة سواء جينياً أو لهجياً. ولا يعلم بالتحديد عدد القرى التي ظهرت في تلك الحقبة، ولا عدد الأفراد في كل قرية، إلا أن أقل رواية ذكرها الجغرافيون المبكرون لعدد القرى في البحرين كانت رواية أبو الفداء (1274م - 1331م) حيث قدر عدد القرى بقرابة 300 قرية وذلك في كتابه (تقويم البلدان). ويقدر Larsen عدد سكان البحرين، في فترة حياة أبو الفداء، أنها تتراوح ما بين 19125 و45900 (متوسط 32500 تقريباً) (Larsen 1983, p.196). ومن خلال هذه الأرقام، لا تبدو رواية أبو الفداء مستحيلة؛ فهناك عدد من الدراسات التي تخصصت في دراسة الديموغرافية في العصور الوسطى Medieval Demographics. غير أن هذه الدراسات لم تُجرَ على منطقة الخليج العربي، لكنها أجريت في بيئات زراعية أخرى. تتضمن هذه الدراسات مقارنات لحجم سكان القرى في تلك الحقبة في مناطق مختلفة، ويتضح من المقارنة أنها كانت قرى صغيرة يتراوح سكانها ما بين 20 - 1000 فرد، وفي الغالب ما بين 50 - 300 فرد (S. J. Ross 1993 - 2014).

أياً كان عدد القرى المتكونة في تلك الحقبة، إلا أنه من المرجح أن أعداد سكان القرى كانت قليلة. وهناك ارتباط شديد بين أعداد السكان والتنوع الجيني أو اللهجي، فكلما قل عدد السكان قل التنوع وأزداد التجانس؛ وهكذا تكونت العديد من القرى المتباينة في الخصائص فيما بينها، بسبب تأثير المؤسس، والمتجانسة بين أفراد القرية الواحدة. أضف إلى ذلك، الغنى الطبيعي في أرض البحرين الخصبة الذي ساعد على انعزال القرى عن بعضها، ليس فقط جغرافياً بل اجتماعياً أيضاً. فالانعزال الجغرافي أدى لظهور مجموعتين من اللهجات البحرانية الفرعية، وهي اللهجات البحرانية الجنوبية والتي تنتشر في جزيرة سترة، وقرى الساحل الشرقي (العكر، النويدرات، المعامير، سند، جرداب، جد علي، توبلي)، وقريتي عالي وبوري، وقرى الساحل الغربي (الدمستان، كرزكان، المالچية، صدد، شهركان، دار چليب). واللهجات البحرانية الشمالية، وهذه تنتشر في بقية المناطق البحرانية والتي تقع إلى الشمال من المناطق السابقة، ويضاف لها جزيرة النبيه صالح. وبالطبع فإن كل مجموعة لهجات مما سبق، أي الجنوبية والشمالية، تنقسم لعدد من اللهجات الفرعية وذلك إما بسبب العزلة الجغرافية، أو العزلة الاجتماعية.

تأثير العزلة الاجتماعية يظهر بوضوح عند دراسة بعض اللهجات البحرانية الفرعية التي تتميز بشدة «الحيوية اللغوية» أي القوة الداخلية للهجة وشدة المحافظة عليها. على سبيل المثال، اللهجة الدرازية، التي تتميز عن لهجات القرى المحيطة بها، هي نتاج لقوة العلاقة الداخلية بين أفراد المجموعة المؤسسة لهذه القرية، لكنها أيضاً نتاج لضعف العلاقات بين هذه المجموعة والمجموعات السكانية الأخرى في القرى المجاورة لها.

اللهجة والمكانة الاجتماعية للجماعة

اللهجة البحرانية، حالها كحال اللهجات الحضرية، تتأثر بالمكانة الاجتماعية للجماعة أي بالطبقات الاجتماعية ونوعية وطبيعة الأعمال التي تمارسها الجماعة. في العام 1982م ظهر كتاب الباحث الاجتماعي الفرنسي Pierre Bourdieu حول اللغة والقوة الرمزية Ce que parler veut dire، ناقش فيه السوق اللغوية، والعنف الرمزي للهجات بين مجتمع المدينة والضواحي. فللغة قوة رمزية؛ فعندما تصبح هناك لهجة مرتبطة بطبقة اجتماعية معينة تصبح حينها عملية الحراك الاجتماعي بين الطبقات مرتبطة بالتغيير في اللهجة. وهكذا يصبح التغير والتطور في اللهجة مرتبطاً بعملية تغير طبيعة الأعمال، وبعملية الحراك الاجتماعي بين الطبقات. ويضاف إلى هذا العامل، عامل مساعد فعال، وهو عامل العنف الرمزي. فبظهور مفهوم المدينة والمدنية في المجتمع البحراني، أصبح هناك سكان المدن الذين يهزؤون، بصورة أو بأخرى، من لهجة سكان القرى.

وعلى الطرف النقيض، يلاحظ أن لهجة العرب، ذات الامتداد القبلي، وهي أيضاً لهجة السلطة السياسية في المنطقة، لم تتأثر كثيراً بالتغيرات الاجتماعية؛ فاللهجة التي تمثلها السلطة السياسية لها قوة رمزية، وتُعتَبر اللهجة المعيارية في البحرين، والتي تقاس على أساسها بقية اللهجات في المنطقة، والتحدث بهذه اللهجة يعطي المتحدث بها نوعاً من «البرستيج» ومكانة مرموقة في المجتمع (Bourdieu 1991, p. 45 - 46)؛ أي أن لها قوة داخلية كبيرة بسبب مكانة من يتحدث بها، وهذا يعطيها استمرارية أكثر، بل تجعل الآخرين، ممن لا يتحدثون بها، يميلون لاستخدامها. بهذه الصورة، أصبحت اللهجة البحرانية واقعة تحت نوعين من الضغوط التي تدفعها للتغير، الأول وهو ضغط من خارج الجماعة، وتمثله اللهجة القياسية، والآخر داخلي، وهو ما يمارسه الشق المدني على القروي من الجماعة ذاتها. القوة الوحيدة التي كانت تجعل اللهجة البحرانية متماسكة، هي العلاقة القوية بين الأجيال الجديدة والقديمة. وبقدوم الموجة الأخيرة من التطور، واختفاء العوائل المركبة، انهارت تلك العلاقات الحميمة بين الأجيال، وأصبحت الأجيال الحديثة أكثر انعزالاً عن الأجيال القديمة؛ وبذلك أصبحوا أكثر عرضةً للتأثر بالضغوط التي تؤثر في اللهجة. وبذلك، بدأت عملية الانسلاخ من الهوية وتقمص هويات أخرى ولهجات جديدة.

خلاصة الحديث، أن غالبية القرى في البحرين تكونت ما بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر، وكانت قرى متباينة جينياً ولغوياً، وعلى مدى الزمن هاجرت جماعات جديدة لتلك القرى لتكبر وتتسع رقعتها وتتطور لهجتها بحسب الظروف التي أثرت في كل قرية.

العدد 4585 - الجمعة 27 مارس 2015م الموافق 06 جمادى الآخرة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً