العدد 4585 - الجمعة 27 مارس 2015م الموافق 06 جمادى الآخرة 1436هـ

المرأة قبل النفط... حسينية الماحوزي (2)

تاريخ الميلاد: 1905م - 1943م

المكان: بلاد القديم

سرد: عبدالكريم علي العريض (ابنها)

كانت الحياة بسيطة في تلك الأيام، وكان الناس يحتفلون بالمناسبات مثل الأعياد ومولد النبي وأهل بيته بابتهاج وفرح وتحتفل العائلات الإيرانية بعيد النيروز. وفي نهاية شهر صفر يشعل الناس حريقاً في معظم حواري المنامة حيث ترمى في تلك الحريق كل الأغراض القديمة ويبدأ الأطفال في اللعب حولها والغناء «طلع صفر يا نبي الله» (هذا العيد هو من بقايا المواسم الزردشتية ويقال إن النار التي تشتعل ويقفز عليها معناها أن الناس يدعونها بأن تأخذ صفرة وجوههم وتعطيهم اللون الأحمر).

انهيار سوق اللؤلؤ أدى إلى خلل في الاقتصاد وكثير من الناس بدأ في إيجاد طرق جديدة لطلب الرزق. وخصوصاً لهؤلاء الذين لم يحصلوا على فرصة الانتقال من الماضي الرتيب والمعتدل إلى القفزة الحديثة والتي أتت مفاجئة للجميع. غيرت تلك الوثبة العادات والتقاليد القديمة وأتت بمفاهيم جديدة لم تكن معهودة من قبل. كانت مشاعل الغاز تحترق في جنوب البحرين في عام 1941م وأغارت الطائرات الإيطالية وألقت عليها القنابل أثناء الحرب العالمية الثانية، كان هذا كلام الناس في ذلك الوقت، كنا نسمعه ونحن أطفال.

في العام 1941م بدأت حالة والدي الصحية تتدهور وجلس في المنزل فترة من الزمن. ومن ثم أُخذ إلى مستشفي الإرسالية الأميركية وكانت أختي مدينة تأخذني معها لرؤيته. لم يبقَ كثيراً في المستشفى حيث إنه انتقل إلى رحمة الله نهاية الخريف.

عشنا في المنزل مع والدتي خلال فصل الشتاء وكنا معتمدين في معيشتنا على عمي منصور العريض. ذهبت أنا إلى منزل سالم العريض ابن عمة والدي. كانت أختي محفوظة طالبة في مدرسة الإرسالية الأميركية. وقد كانت والدتي تطمح لها أن تحصل على تعليم جيد لأنها رأت فيها حب التعلم وأن تصبح معلمة في المستقبل.

توعكت صحة والدتي في بداية فصل الصيف وازداد عليها المرض وظلت طريحة الفراش مع مرور الأيام. اُستدعي لها دكتور هندي الجنسية من المنطقة لفحصها. قال الدكتور إنها تُحتضر. في اليوم الثاني تجمعت النسوة حولها بينما كانت تأخذ أنفاسها الأخيرة ومن ضمن النسوة كانت هناك «سكينة بنت الشيخ» زوجة محمد العريض كانت تعمل لها خلطة لغسل الفم ولكنها تنهدت «لقد توفيت» وضعت الغطاء على وجهها وباقي بدنها.

كنت ألاحظ المشهد من باب الغرفة. أتى بعض الرجال مع حمالة لأخذها وتجهيزها للدفن وهم جاسم وجمعة العريض. بينما هم في طريقهم لأخذها صرخت ُسكينة «لقد رجعت للحياة. فتحت عيناها من غير أن تقول شيئاً» هي رسالة تريد أن تقولها بأنها لا تريد أن تموت في هذه الغرفة وأن تدفن بعيداً عن أهلها وقريتها التي أتت منها وسوف تدفن فيها. قالت «احتاج أن أذهب إلى ذلك المنزل الذي قدمت منه أول مرة ومن هناك تبدأ رحلتي من الأرض التي تنام فيها والدتي ووالدي، من مقبرة أبو عنبرة في بلاد القديم». كانت أمنيتها أن تدفن في بلاد القديم مع عائلتها على تلك الأرض المقدسة بالنسبة لها.

في عصر يوم من أيام الخريف في العام 1942م رجعت للمنزل بعد أن أكملت اللعب مع الأولاد في الخارج وكان عمري آنذاك ثماني سنوات. رأيت والدتي نائمة على سجادة بالقرب من باب الغرفة، لم يكن أحد معها، أخواتي قد ذهبن إلى بيت عمي محسن وكان ذلك قبل الغروب. جلست بالقرب من رأسها وكانت عندي لوزة في يدي أعطيتها اللوزة وقلت لها جربيها إنها لذيذة. رفضت وقالت لي «شكراً ولدي، ليس عندي أي شهية للأكل». وبعد ذلك أخذت يدي وأخذت تتحسسها ثم وضعتها فوق صدرها وهي تتنهد «ابني هنا (تعني صدرها) مدون به الحلو والمر»، وبعد ذلك قالت «ولدي. اهتم بإخوانك وأخواتك». كلماتها أدمعت عيني، ثم قالت «ابني لاتبكي، نحن بشر ليس لدينا أي شيء فالله يعطي ويأخذ».

قصص مختلفة تدور في مخيلتي ثم بدأت أجمع الأحداث عن والدتي وهي تذهب بي في منتصف الليل إلى الحمام وتنتظرني في الخارج في ذلك البرد القارص ومنظرها وهي تأخذني إلي المدرسة مشياً على الأقدام وعندما أُصُاب بألم في رأسي أصرخ «والدتي اربطي رأسي» فتربطه لي وتبدأ في قراءة سور من القراّن حتى أهدأ وأنام.

كانت المناظر تمر علي بين الحين والأخر وكأنها شريط سينمائي. كانت حازمة في تربيتنا، لديها مبادئ وأخلاق تصر علي تعليمها لأولادها، مراسم خاصة ورثتها من أهلها. حاولت جاهدة لتعليم أبنائها مبادئ الصدق والأمانة وهي ضد فكرة خلط الأبناء مع الأولاد سيّئي التصرف حتى لا يصبح أبناؤها سيّئي التصرف مثلهم. تعتبر نفسها من سلالة دينية عريقة في البحرين حيث إن جدها الشيخ حسين الماحوزي واحد من مدرسة العلماء (المجتهدين) الأصوليين في المجتمع البحراني، وجدها الشيخ عبدالله بن ماجد البلادي هو شيخ الإسلام في نهاية العهد الصفوي، وابنه شيخ محمد بن عبدالله بن ماجد مساعد الحاكم في سنة 1705م.

نستنتج من ذلك بأنه لابد لأبنائنا من النظر لتلك الشخصيات البارزة. هذه العائلة تمتلك الكثير من الأراضي الزراعية في كثير من القرى البحرينية من القرن السادس عشر وواحدة منهم هي بيوتهم الموجودة في بلاد القديم والتي تعتبر من أكبر البيوت هناك حيث تحتوي عدداً من الحمامات التي يجري بها الماء من عين قصاري ثم يجري في مجاري حول البيت، فهي على شكل الدلتا تغذي ثلاث مناطق هي قرية الصالحية وقرية الزنج والجهة الشرقية من مسجد السدرة.

سألت أختي محفوظة عن الأوراق الذهبية الموجودة على غطاء الرأس الذي عند والدتي، قالت لي هذه الأوراق قديمة، هي ميراث الأم إلى ابنتها عبر السنين، وعددها اثنتا عشرة ومصنوعة من الذهب الخالص. وهي هدية من سلطان إيران إلى مسئول حكومي للمنطقة الصفوية في يوم النيروز وكذلك إلى شيخ الإسلام. حصلت والدتي على هذه الأوراق الذهبية من والدتها في يوم زواجها وهم من شيخ الإسلام آنذاك، الشيخ عبدالله البلادي، واحد من أجداد والدتي. وكان الأخر يحصل على هدايا من إيران في عيد النيروز في تلك الأيام في العصر الصفوي.

لقد زرت والدتي بعد شهر واحد من انتقالها إلى بلاد القديم إلى بيت جدي سيد حسن الماحوزي. كانت جالسة علي سجادة وبدأت تسألني عن أخواتي وخصوصاً طيبة التي كانت على وشك أن يعقد قرانها على ابن عمها محمد حسن منصور العريض وإذا كانت محفوظة مازالت تذهب إلى المدرسة أم لا، وعن إخواني صالح وطاهر.

مع نهاية الخريف في العام 1943م، توفيت والدتي، وأُخذت إلى مقبرة أبو عنبرة (بالقرب من مسجد الخميس)، حيث دفنت هناك بجانب والدتها. وقد حققت حلمها ودفنت قرب من تحب من أفراد أسرتها.

العدد 4585 - الجمعة 27 مارس 2015م الموافق 06 جمادى الآخرة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً