العدد 4635 - السبت 16 مايو 2015م الموافق 27 رجب 1436هـ

التكريم في إطار الثقافة الاستهلاكية

منى عباس فضل comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

وردت كلمة تكريم ومشتقاتها في القواميس العربية من فعل كَرَّمَ، ويُكرِّم، ويقال كَرَّمَ الرَّجُلَ بمعنى عَظَّمَهُ، أَكْرَمَهُ، فَضَّلَهُ، ميزه وشرَّفه ورفَع شأنَه وأحسن معاملتَه. وفي المعجم الوسيط الإِكْراميَّةُ تعني العطيَّة والمكافأة، وأَكْرَمَ ضُيُوفَهُ: قَدَّمَ لَهُمُ الأكْلَ وَالشُّرْبَ عَنْ طَوَاعِيَةٍ، أحْسَنَ إِلَيْهِمْ، لَمْ يَبْخَلْ. وفي التاريخ العربي قال المتنبي:

إذَا أَنْتَ أكْرَمْتَ الكَرِيمَ مَلَكْتَهُ وَإنْ أنْتَ أكْرَمْتَ اللئِيمَ تَمَرَّدَا.

إن عبارة التكريم غنيةٌ بقيمتها ومعانيها ومضمون دلالاتها في اللغة العربية، لم لا وهي تمثل ثقافة وسلوكاً إنسانياً نبيلاً يحفّز على دافعية العطاء والإبداع والتميز الذي يجدّد بيئة العمل. كما إنه قيمة مضافة تساهم بتراكمها في بناء المجتمعات والإرتقاء بها، والتكريم بهذا المعنى وذاك تعبير عن حالة حضارية راقية كممارسة تحرص عليه المؤسسات الرسمية وغير الرسمية من مؤسسات وأحزاب ومنظمات مجتمع مدني وغيرها، لاسيما وأن من خلاله يُترجم التقدير لمن يستحقون الاحتفاء ممن خدموا أوطانهم في شتى حقول العلم والمعرفة والإبداع والعمل التطوعي فارتقوا بها، الأمر الذي يضع المكرّمين في مكانة مناسبة تعكس أعمالهم وإنجازاتهم، وتشعرهم بالانتماء لمجتمعاتهم ومؤسساتها وتحفّزهم على المزيد من الإبداع والعطاء.

لقد أثبتت تجارب الشعوب الحديثة أهمية نشاط الفرد في مجتمعه إلى جانب أهمية التآزر والتكامل وتنمية الإنتاجية والإسهام بالعطاء والمشاركة في تحمل المسئوليات، مما له دلالة عميقة معبّرة عن المستوى الثقافي الذي وصل إليه أفراد المجتمع ووعيهم واعترافهم بما بذله المكّرمون من جهود وشعورهم بعطاءاتهم، وهذا بالطبع ينتج مردوداً معنوياً إيجابياً كبيراً.

للتكريم أشكال متعددة تمنح في صورة شهادات التقدير والجوائز باسم المكرّم، فضلاً عن الهدايا والدروع الرمزية أو تسمية مؤسسات ثقافية أو شوارع أو أحياء باسمه. وأحياناً تُمنح عضويات شرفية أو تقدّم شهادات أكاديمية فخرية، كما قد يقرن التكريم ببعد مادي يتمثل بمكافآت نقدية أو عينية خلال حفل يعترف فيه بعطاءات المكرّمين، والتركيز على الجوانب الإيجابية والمتميزة في مسار عملهم ونشاطاتهم وإنجازاتهم. وفي مجتمعات أخرى غالباً ما تقام احتفالات وفعاليات التكريم في صورة معارض ثقافية تُزال فيها الأغطية عن النصب أو التماثيل لبعض الشخصيات التي ضحّت أو تميّزت في الفنون والإبداع أو العلوم والطب وغيرها. فهم يحتفون بهم أحياءً وأمواتاً، كما يحفظ لهم التقدير في الذاكرة الجمعية.

إن فعل التكريم فعلٌ حضاري وتراكمي بامتياز، يحتاج إلى احتضان عميق من الدولة ومؤسسات المجتمع والأفراد، كما إنه وبالقدر نفسه، يتطلب التخطيط والحيادية وتحديد الرسالة المطلوب توصيلها عبر ممارسته، وبالتالي فمن الأفضل مأسسته بتشكيل لجان تعمل بموضوعية في عملية التحكيم ومن خلال معايير تضعها وتضبطها، كي لا يُترك للمواقف العشوائية والمصالح الشخصية المتبادلة؛ وأن لا ينحصر التكريم في نهاية المطاف في الثناء والمديح المبالغ فيه على رغم أهميتهما، فيفقد الفعل معناه وقيمته ورمزيته في تحسين مفهوم الذات ودورها الريادي في المجتمع.

وعليه يستوجب التركيز على قضيتين جوهرتين، أولهما أن يفسح التكريم المجال أمام تطوير الأداء ومراكمة الإنجاز، وتوسيع نطاق انخراط الأفراد لممارسة أنشطتهم في المجتمع بحيوية وإنتاجية؛ والثانية أن يشكّل حافزاً معنوياً يقوّي العزائم ويشد الهمم، ومنه... يجوز السؤال عن ماهية عمليات التكريم الشائعة في مجتمعاتنا المحلية.

على الرغم من أهمية فلسفة التكريم ورجاحتها استناداً إلى ما سبق، إلا إنها على ما يبدو تحوّلت في وجهها الآخر في مجتمعاتنا التي تسودها الثقافة الاستهلاكية، إلى جزءٍ لا يتجزأ من ظاهرة التباري والتباهي الاجتماعية. بل إنها أصبحت في بعض المناسبات ما يشبه المكرمة والعطية التي يسعى إليها البعض بما تمنحهم إياه من وجاهة وتضخيم للذات. لقد تحوّلت في بعض المواقف إلى سلوك استهلاكي يتم اجتراره وتكراره برتابة مملة للنفس في مناسبات متكررة، كما ولّدت احتداماً تنافسياً للتميز الشكلاني ومعاييره المتزايدة التي ساهمت في إهدار فكرة التكريم واستنزافها والمبالغة فيها كممارسة يتخذ منها في بعض المواقف والمناسبات وسيلة من وسائل نشر ثقافة النفاق والمحاباة والمجاملة.

إضافةً لفقدان صفة التميّز كمعيار أصيل في قضية التكريم فيستوي الذين يعملون بمن لا يعملون، وتتم المساواة بين من جد واجتهد وبين فاقدي العطاء والإبداع والتميّز الذين يقفون في طوابير المكرمين وتتصدر أسماؤهم قوائم التكريم وتُنشر صورهم في صدر صفحات الصحافة والإعلام، للاستحواذ على الشهادات والجوائز والهدايا والدروع التي تهدر فيها الأموال وتتكدس على الأرفف وفوق الجدران وغيرها، مما لا يستحقون. في الوقت الذي تتراجع فيه مؤشرات إنتاجية العمل الاجتماعي النوعي المعبّر عن مستويات الإنجاز والإتقان في المجتمع.

الخلاصة، لا يُفهم من حديثنا إننا ضد عملية التكريم وفلسفتها، إنما نحن ضد تبخيسها وإطفاء جذوتها وتسطيحها بالبعد الاحتفالي والنشوة الظرفية غير ذات معنى، إننا مع أن يبقى الإنسان المتميّز بإبداعه النوعي محور فكرة التكريم الأساسية بما يتوافر عليه من قيم إنسانية وعطاء يتجسد في تضحياته وحبه للعمل كقيمة، وفي أدائه وإتقانه لعمله وسلوكياته التي تصب في تنمية المجتمع وتعيد إنتاج المهارات الحياتية والكفاءات الإنسانية المتطورة القادرة على تحفيز الذات وإنتاج القدرات والقيادات والمواقف الإيجابية والإبداعية، وبما يقوي عناصر الالتزام والانتماء للوطن بعيداً عن المصالح الشخصية الضيقة.

إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"

العدد 4635 - السبت 16 مايو 2015م الموافق 27 رجب 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 1:26 ص

      تكريم

      الوزارات كانت تكرم موظفيها كل خمس سنوات..ولكن التكريم توقف من فترة لاسباب مجهوله...ولو ان التكريم الحكومي لم يكن بالمستوى المطلوب مقارنة بتكريم الشركات وبعض الجهات في القطاع الخاص ..ولكن على الأقل يشعر بالموظف بشيء من التقدير نظير خدمته وجهده...

اقرأ ايضاً