العدد 4639 - الأربعاء 20 مايو 2015م الموافق 02 شعبان 1436هـ

المخيلة: نص نجاة من المكر السيئ والغبي!

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

حين تصرخ وتتألَّم وتتعذَّب في الجانب الآخر من العالم؛ لن يُصغي إليك أحد. تحتاج إلى صوت يشعر بصراخك وألمك وعذابك كي يُوصله. ذلك الصوت لابد أن يكون أو كان في جحيم الاختبار يوماً؛ أو كان جاراً له؛ أو له من القلب ما يجعله قادراً على منح العالم من حوله يقظة تكفيه لدهور. ولا يُصيبنَّك همُّ الخذلان حين لا يشعر بصراخك وألمك وعذابك أحد، في زمن جُلُّ حواسه رهْن الغياب!

حين تذهب إلى التجربة. تجربة طاقتك، قدرتك على هزيمة الألم، وقدرتك على أن تستضيف الألم في أوقات، وقدرتك على أن تَعِدَ العالم بما يُدهش، ويعمل على إحداث تغيير بتلك الدهشة الممتلئة، فأنت ابن عفوية هذا العالم، دون أن يعني ذلك مصالحتك مع السذاجة؛ أو الدخول في حلف مع الغباء المستشري؛ أو الرضوخ إلى من يتوهم إقناعك بأن بيده مفاتيح الخلاص، وهو من زجَّ بك في كل هذا الأتون!

حين تبحث عن مخرج من مأزق. عن وصول في متاهة. عن وفاء في اضطرام الخيانات والحروب. عن قمة في أرض كلها هاويات وحُفَر. عن معرفة في سيادة الجهل. عن أمانة في ظل وجاهة اللصوص. عن مستقبل في ركون وتقديس للماضي. عن استيعاب وتفهُّم في ظل التهم الجاهزة. عن طفولتك في هذا الخَرَف السائد والمستبد. عن الوردة في حضور الرصاص المألوف في الميادين والأزقة؛ كي لا يتم تخريب نوم أحدهم. عن التاريخ الذي تتم صياغته بيد الكَذَبَة والعاطفيين أمام المال والذهب والدِنان. عن أعداء أليفين يتفهّمون حصتك في الحياة. عن زورق نجاة يعيدك إلى وطنك مهما كان محفوفاً بالموت والنهايات الأليمة. عن الذكريات الجارحة، تبحث فيها عن تماسكك؛ لن تجد غير المخيلة تأخذك في سفر لتصحيح مسارات ومواقف وخيارات استعصت على الواقع. هنالك يكمن الخروج على النص! نص الخرائط والوصَفَات والمناهج وكتائب من الأدلاء والدعاة وقصَّاصي الأثر، وقارئي الطالع، وخبراء الأحوال الجوية، ومحللي أسواق المال، والسماسرة أباً عن جد، ومفسّري القرآن بحسب الظروف، و»الردّاحات»، وشركات الدفن والنعي!

حين تبحث عن كل ذلك، في زمنٍ بتلك المواصفات، وتلك العيِّنات من البشر، ستحتاج ساعتها إلى أكثر من مخيلة تُقنعك بجدوى الوجود في هذا العالم!

ومع المخيلة اليقظة، النابهة، القادرة على اجتراح عالمها وخلاصها، وقدرتها على النفاذ إلى ما يتوهم أنه حصين وعصيٌّ على الاختراق، يمكن صياغة عالمٍ ليس بالضرورة الانسجام معه بادئ الأمر؛ لكنه سيكون الصيغة المُثْلى لعالمٍ بلا صيغةٍ أساساً! وحتى ذلك يحتاج إلى مخيلة موهبتها الخراب!

حين تذهب إلى النص عارياً من الشكل المُسبق، واللغة المُسبقة، والأفكار، والكائنات المسبقة، فستكون على موعدٍ مع كتابةٍ تعيد صياغتك، قبل أن تعيد صياغة تجليات النص. تكون المخيلة وقتئذ في حضورها الممتلئ حد الإحاطة. نص خارج القدرة على رقابته؛ لأن المخيلة لا رقابة عليها حتى قيام الساعة.

حين لا تجد ما تقرأ بحب، فتأكَّد أن العالم بدأ شيخوخة مخيلته. ما لا يمكن قراءته لا يمكن أن يكون له علاقة بالمخيلة. المخيلة متورطة بحب غامر وملفت في الاكتشاف والتمرد وتحطيم الحواجز والنفاذ إلى ما يُظنُّ أنه مغلق وموْصد.

هل قلت: شيخوخة المخيلة؟ تلك واحدة من التهديدات التي تستدرج الإنسان، والبشرية عموماً إلى حتفها، وفك ارتباطها بأول المعرفة.

ثم إنه لا يكون عدوك قوياً، ومُحدِّثاً لأساليب مكْره وبطشه ما لم تكن مخيَّلته هي رأس أولوياته؛ وليست على رأس أولوياته فحسب. يربِّي مخيلته على مداهمتك في الوقت الذي تظنّ فيه أنك ابن الطمأنينة، وأنك في الغرف الحصينة من الأبراج المشيَّدة!

ليس على العالم وكائناته أن يقلق من شح الموارد. عليه أن يقلق من المرض والترهُّل والضمور الذي يمكن أن يصيب مخيلته. ساعتئذٍ، يمكن له أن يحضِّر نفسه إلى اليوم الموعود. يوم نهايته. وقتها؛ لا أثر يدل على المخيلة. لا أثر يدل عليه.

والحب لا يصل إلى امتداداته المُذهلة ما لم ينطلق من مخيّلة تستطيع أن تفاجئ... تُدهش... تعيد صوغ قدرتها على التعبير والدفء والنظر؛ وتلمُّس الطرق التي تبقيه طازجاً وحيوياً ومتجدِّداً ومُبْهراً.

وهذا الجنون غير الاعتيادي الذي يجتاح العالم، بتلك الشهوة الضاربة، والذهاب إلى التدمير والعصف، هو نتاج مخيلة مريضة ومضطربة. مخيلة فقدت قدرتها على الرؤية، وانسلخت عن حواسها، وتحوَّلت إلى وحش وجد في هذا العالم فرصة لاستدراجه إلى النهايات التي يريد. مخيَّلة مُضادَّة، تذهب في اتجاه عكسي، وتعمل على إعادة العالم والمنجز البشري، إلى بداياته وسذاجته وتخلُّفه وعجزه وقلَّة حيلته.

ويظل هذا العالم مكشوفاً وفي العراء، من دون المخيلة. مكشوفاً لأنه في العادي من تفكيره ونظره وتوجُّهه. وفي عراء من احتوائه وحصاره، وإحكام المنافذ عليه، وتجريده من الخيارات وهو بمنأى عنها.

وفي أبسط ما يمكن أن نقف عليه من توصيف، المخيلة: أنتَ؛ من حيث لا يُراد لك أن تكون؛ ومن حيث لا يُراد لك أن تمارس دهشتك ومباغتتك وفعلك اتجاه محيط تجزم أنه بلا ذاكرة؛ وبالضرورة أن يكون بلا مخيلة!

بكل محاولة متاخمة الرؤية آنفة الذكر. بكل ما تم استدراكه، وما فات على هذه الكتابة أن تمسك به؛ أو تقترب من حوافِّه المُسنَّنة؛ تظل المخيلة عالماً لوحدها. عالم التصور والتخيل والإدراك خارج نطاق وحدود الحس والمألوف والقائم؛ ذلك الذي سيصبح يوماً محسوساً ومألوفاً وقائماً.

بكل ما سبق، المخيلة: نص نجاة أي منا في غابة من المكْر السيئ والغبي في الوقت نفسه!

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 4639 - الأربعاء 20 مايو 2015م الموافق 02 شعبان 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً