العدد 4643 - الأحد 24 مايو 2015م الموافق 06 شعبان 1436هـ

جذور «داعش» في التاريخ

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

إن «داعش» تنظيم لم نرَ مِثْله من قبل. هذا ما قاله أحد المسئولين الأميركيين عندما التقى بوسائل الإعلام. وربما يقول عربٌ ومسلمونَ بأنهم أيضاً لم يروا تنظيماً مثل «داعش» من قبل. لكن هناك فارق بين الرأيين، حتى لو لم يدرك برزخه الطرفان. فالأميركيون يقولون ذلك من منطلق ميكانيكي صرف، يتعلق بقواعد الحرب وميزان القوى على الأرض وبكل ما هو مادي ومحسوس.

أما العرب والمسلمون فنظرتهم يجب أن تكون أعمق من ذلك. فالتنظيم يدّعي بأنه ينتمي إلى الإسلام، وبالتالي يضيف نفسه عليهم، قبلوا بذلك أم لم يقبلوا. وما دام التفكير في هذا المدار فهو جيد للحديث عنه، ولا يحتاج سوى لتحديد البوصلة. بمعنى أنه يجب أن نبحث نحن العرب والمسلمين عن زاوية الارتكاز التي يقوم عليها تنظيم «داعش» وعموم التطرف الذي يدعي وصلاً بالإسلام، وهل أن ذلك الفكر غريب على التاريخ الإسلامي، أم أنه عارض كان له وجود، وبالتالي علينا مواجهته كواقع.

الحقيقة أن «داعش» والتطرف اليوم يقوم على مبدأ ديني وفكري منحرف، وهو الغلو، كان قد تشرَّبه بعض المسلمين في بدايات الدعوة الإسلامية وامتد لاحقاً في عصور مختلفة من الحكم الإسلامي. وبالمثل اليوم فإن التطرف صار يُلزِم نفسه بتوسّع مُفرِط في العقيدة والدِّين أفضى به إلى أن يُصاب بذلك الداء وهو الغلو، الذي من أسبابه الرئيسة جوانب نفسية معقدة، تتعلق بالاعتداد ورؤية النفس بأعلى من منزلتها الحقيقية، فيؤدي ذلك لأن يشذّ المغالي عن الجماعة.

وعندما نقرأ التاريخ سنجد أن الغلو لم يكن غريباً على التاريخ الإسلامي، بل إن الحقب المتوالية لما بعد الدعوة كانت قد شهدت مثل تلك العقائد المنحرفة كما أسلفنا، وأدت إلى وقوع مجازر وصراعات دامية، وبث أفكار خاطئة وتقوّلات لا تعكس سوى أصحابها ومَنْ يريدون لها أن تشِيعَ عنوة.

في تعريف الغلو كما جاء في معجم المصطلحات البلاغية وتطورها، نقلاً عن العسكري قوله بأنه «تجاوز حد المعنى والارتفاع فيه إلى غاية لا يكاد يبلغها». ونقرأ للزمخشري (ونقله ابن عادل في اللباب) أن غُلُوّ الباطل «هو أن يتجاوز الحقَّ ويتخطَّاه بالإعْرَاضِ عن الأدلَّة». وقد جاء الوصف كله بسواء ما بين التشدد والتنطع والغلو كون تلك النعوت كلها تعني تجاوزاً للاعتدال.

وقد نُهِيَ عن الغلو في القرآن الكريم ضمن آيتين: الأولى في سورة النساء (الآية 171) عندما قال تعالى في محكم كتابه: «يا أَهلَ الكتابِ لا تَغْلُوا في دينِكُمْ ولا تقولوا على الله إِلا الحقَّ»؛ والثانية في سورة المائدة (الآية 77) في قوله تعالى: «قُل يا أَهلَ الكتابِ لا تَغلوا في دينِكُم غَيرَ الحقِّ ولا تَتَّبعوا أَهواءَ قومٍ قد ضلُّوا منْ قبلُ وأَضَلُّوا كثيرًا وضَلُّوا عن سواءِ السَّبيل».

وقد ورد عن رسول الله (ص) قوله: «صنفان من أُمتي لا نصيب لهما في الإسلام: الغلاة، والقدرية». وعندما بلغه (ص) أن أحدهم يصوم النهار ويقوم الليل بشكل دائم قال له: «فَلا تفعل، صم وأفْطر وقم ونم، فإِن لجسدك عَلَيْك حقاً وإِن لعينك عليك حقاً، وإِن لزوجك عليك حقاً»، كما ورد في الدر المنثور للسيوطي.

وقد جاء في المستدرك أن رجلاً جاء إلى رسول الله (ص) فقال: السلام عليك يا ربي. فقال: مالك لعنك الله، ربي وربك الله». وورد عن الإمام علي بن أبي طالب أنه قال: «بُني الكفر على أربعة دعائم: الفسق، والغلو، والشك، والشبهة». وفي ميزان الحكمة عن الإمام جعفر الصادق: احذروا على شبابكم الغلاة لا يفسدونهم، فإن الغلاة شر خلق الله، يصغرون عظمة الله، ويدعون الربوبية لعباد الله».

وقد وردت في التاريخ الإسلامي العديد من الأسماء المغالية كالمغيرة بن سعيد وبشار الشعيري وإسحاق الأحمر وبيان بن سمعان ومحمد بن بشير وأبي الخطّاب محمّد بن المقلاص، الذي كان يدّعي الربوبية لأحد الأئمة، والنبوة لنفسه على أهل الكوفة كما في البضاعة المزجاة. بل «كان الغُلاة في زمان الأئمّة هُم الفرقة الأكثر عدداً من سائر تلك المذاهب الفاسدة، وكان كثير منهم رواة أحاديث»، كما جاء في الأسس الحديثية والرجالية، خصوصاً وأن الغلاة لم يكونوا أفراداً، بل تطوّروا على هيئة فرق وأحزاب وجماعات، كما في «البيانية والخطابية والشعيرية والمغيرية والبائية والغرابية والعليائية والمخمسة والبزيعية والمنصورية» كما جاء، لذلك كان لهم تأثير كبير في تعميق الانحراف والتطرف الذي ساد في عصور سابقة من التاريخ الإسلامي.

يضاف إلى ذلك فإن المغالين كانوا ورقةً في أيدي السياسيين. فقد استغلت بعض السلطات الحاكمة في ذلك الزمان الغلاة لتمرير مشاريع ومحاربة جماعات أخرى. وهو ما يجري بالضبط في هذا الزمان، حيث باتت الجماعات المتطرفة والمغالية مِعولاً تستخدمه بعض الدول لتدمير دول أخرى أو تصفية جماعات منافسة، بل لإفساد عقائد حتى، وهو ما حدث في السابق كذلك.

لذلك جاء التحذير مشدّداً في كيفية تلقي الأحاديث والروايات، فقد كان كثير منها موضوعاً ومكذوباً وبلا سند. وقد استغلّ المغالون الروحانيات الدينية وفضاءها المطلق كي يعيثوا فساداً بآراء خطيرة، بعضها اعتُبر ضد حق الحياة والحياة الكريمة للناس، وهو ما يوجد في حاضرنا بالمثل. فقد أنتج لنا المتطرفون المغالون انتهاكات صارخة لحقوق الناس وحقوق الأرض، بطريقة مخيفة، ولم يعد من خيار سوى خيار مواجهتهم بشتى الطرق كما واجههم الإسلام في بداياته الأولى.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4643 - الأحد 24 مايو 2015م الموافق 06 شعبان 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 3:41 ص

      يتبع

      وقلنا شعارهم لا حكم الا لله ولكن حكم الله يطوعونة مع شهواتم و نزواتهم ومع اتفاق اهواء انفسهم لا يتعدى ذلك الى عدل او انسانية او انصاف او تطبيق الحق ، واليوم التاريخ يعيد نفسه ونعيشه ونعايشه ولكن الناس في سكرة ومتى ما وقع الفأس في الراس تأتي الفكرة وهناك لا ينفع الندم .

    • زائر 3 | 2:31 ص

      في عصرنا الحديث

      الحقيقة إن الغلو انتشر في العصر الحديث من خلال وعاظ تم تشجيعهم ونشر افكارهم من خلال كتبهم ومحاضراتهم وقنواتهم الطائفية ، وبذورهم نبتت في أفغانستان وكانت ولا تزال معاهد باكستان الدينية تغذي التطرّف وتشجع على الاٍرهاب ، وكانت أفغانستان ارض خصبة للتدريب على القتال وزرع المتفجرات وبتشجيع وتمويل أمريكي واسلامي وعربي نكاية بالسوفييت ، وعاد ما يسمون بالمجاهدين وأخذوا ينتشرون في صمت في البداية كالطحالب السامة ، وتتعد مسمياتهم ، وبدأوا في نهش الايادي التي غذتهم وتنفيذ جرائمهم

    • زائر 2 | 12:50 ص

      موضوع مميز

      نشكر الأستاذ على هذا الموضوع المهم وأشعر بأن الموضوع مقتضب لدرجة التفكك ولربما لحاسسيته
      أرجو أن يتوسع الأستاذ الكاتب في هذا الموضوع وعلى حلقات
      وفقك الله يا أستاذ يا متميز

اقرأ ايضاً