العدد 4656 - السبت 06 يونيو 2015م الموافق 19 شعبان 1436هـ

العمل البلدي الذي كان رائداً ونموذجاً فأصبح مُلحَقاً تابعاً

«البلديات في البحرين بين قرنين 20 - 21» للمرباطي...

صورة ارشيفية لمشاركة المرأة البحرينية في التصويت للانتخابات البلدية في الخمسينات
صورة ارشيفية لمشاركة المرأة البحرينية في التصويت للانتخابات البلدية في الخمسينات

لا يكفي أن تحقق ريادة في حقل... في مجال... ثم تنام على تلك الريادة؛ حين تصحو ستجد الآخرين الذين كانوا في نومهم أو غفلتهم، أو قلة إمكاناتهم في زمن ريادتك تلك، قد استيقظوا ولحقوا بك؛ وربما تجاوزوك.

كتاب عضو مجلس بلدي المحرق عن الدائرة الخامسة، غازي المرباطي «البلديات في البحرين بين قرنين 20 - 21»، وإن كان لا يُقدِّم جديداً، بالنظر إلى الذين سبقوه في تناول هذا الموضوع ربما قبل عقود؛ وإن اقتصر تناول أولئك على التأريخ للعمل البلدي من جهة، وقراءة محاضر، وتسليط الضوء على إحصاءات، ضمن تناول متناثر ومتنوع، لا يركِّز الضوء على موضوع بعينه، من بين تلك الموضوعات، تجربة العمل البلدي في عشرينات وأربعينات مروراً إلى الخمسينات، وصولاً بها إلى السنوات الأولى من الألفية الجديدة؛ إلا أنه يقدِّم هنا جملة من المفارقات، ويضع كثيرين أمام حقائق، عادة ما يهرب المعنيُّون منها، ويجدون في تناولها انتقاصاً للتجربة. انتقاص التجربة حين يتم الاقتناع بأنها وصلت إلى ذروة كمالها، وأنها تحقق اليوم ما عجز عن تحقيقه كثيرون. الصورة والواقع والتجارب من حولنا تقول خلاف ذلك، من دون مواربة أو مكابرة. كما يُقدِّم جانباً توصيفياً للأدوار التي من المفترض أن تلعبها المجالس البلدية، في استدعاء لتجارب غربية سابقة، يُراد لتجربتنا في المنطقة - على أقل تقدير - أن تأخذ ولو بالضئيل واليسير منها.

في المحصلة النهائية، لا الضئيل، ولا اليسير من تلك التجارب يمكن معاينته وتلمُّسه بالقوانين التي تحدُّ وتحكم وتؤطِّر عمل المجالس البلدية، وبالمناسبة: غيرها من المجالس أيضاً!

يعقد المرباطي بشكل مباشر، مقارنات بين واقع العمل البلدي الذي كان رائداً مُستقلاً فأصبح مُلحقاً تابعاً لمؤسسات الدولة، وبين تجربة خليجية - وربما تجارب - جاءت بعد التجربة البحرينية، فحظيت بفضاء كبير من الصلاحيات والنفوذ، بطبيعة القانون الذي نظَّم أدوار المجالس البلدية في المنطقة؛ وخصوصاً دولة الكويت.

الكاتب/ الكتاب من جهة أخرى، لا يهرب من المشكلات والعوائق، المصطنعة منها، وتلك التي لا يد لأحد في تغييرها.

مقدمة الكتاب تبدأ بمرارة وحنين للأيام الأولى من تلك الريادة.

الحنين لا يصنع تجربة!

كلام على التجارب البلدية لدول الخليج، كلام لا يبارح الحنين إلى الزمن الذي كانت فيه التجربة رائدة ونموذجية، ومثار إعجاب العالم القريب والبعيد. والحنين لا يصنع تجربة في نهاية المطاف! كلام على التجربة التي استقَتْ خطوطها ومناهجها وتنظيمها من البحرين. الإشارات في الدوريات والمذكرات التي كتبها الرعيل الأول من المؤسِّسين في تلك الدول؛ أو ممن أدلوا بشهاداتهم؛ كل أولئك لا يمكنهم أن يغُضُّوا الطَرْف عن تجربة البحرين الرائدة في العمل البلدي. الاستشهاد أول الأمر بفقرة من دراسة حول نشأة بلدية الكويت نصها «تأسَّست بلدية الكويت في 13 أبريل/ نيسان 1930، بعد أن قام الشيخ يوسف بن عيسى القناعي بزيارة إلى البحرين في يوليو/ تموز 1928؛ حيث شاهد بلدية البحرين التي أنشئت في العام 1919، وبعد ذلك كتب مقالة بعنوان الحكم الشرعي في تاريخ البلديات، ثم طُرحت فكرة إنشاء البلدية على حاكم الكويت المغفور له الشيخ أحمد الجابر الذي اقتنع بالفكرة، ووافق على إنشاء بلدية الكويت، لتُسهم في مسئولية النهوض بالبلاد في مختلف المجالات، الصحية والاجتماعية، ولتمارس نشاطها من خلال مجلس بلدي مُنتخَب يراعي مصالح المواطنين».

الاستشهاد بتلك الفقرة، لابد وأن يتبعها كشف حساب مختصر لذلك الأداء المبكّر، وما وصل إليه اليوم. واقعه، حقيقته، جدواه، والصلاحيات الممنوحة لتلك المجالس والأعضاء، وقد قطعنا 15 عاماً من الألفية الجديدة. هنا نص المرارة/ كشف الحساب عبْر تساؤل يختصر الحال: حال تجريد المجالس من صلاحياتها، وإلحاقها في صورة أو أخرى بمؤسسات الجهاز التنفيذي التابع إلى الدولة.

«عندما تكون التجربة البلدية في البحرين، قدوة يُحتذَى بها في بدايات القرن العشرين، يُفترض أن تكون بدرجة أرقى مع مطلع القرن الواحد والعشرين؛ فالتجربة البلدية في بلادنا تقارب القرن على بداياتها منذ العام 1919، ففي حين تطوَّرت التجربة الكويتية في مجالات العمل البلدي (...) نجد العمل البلدي في بلادنا انحصر في نطاقه الراهن وفق أحكام قانون البلديات، الذي نزع صفته التقريرية، وجعله في نطاق مؤسسات الجهاز التنفيذي للدولة مُجرَّداً من أية سلطات؛ وبدلاً من أن تتطوَّر لإدارات للحكم المحلي، بعد تراكمات مُفترَضة خلال قرن من الزمن، نجدها تتحوَّل إلى وسيط خدماتي، لا تختلف عن الدوائر الحكومية المُلحقة بوزارة شئون البلديات والتخطيط العمراني».

استطلاع يكشف خواء الدور

في المقدمة نفسها، يشير المرباطي إلى أنه أجرى استطلاعاً للوقوف على رأي عدد من المواطنين، وما يحملونه «من معرفة عن محيطهم البلدي، وقد تبيَّن من نتيجة هذا الاستطلاع أن الغالبية لا تعرف ما هو عمل المجالس البلدية»، طارحاً السؤال البديهي في هذا الصدد: لماذا؟ كأنه استطلاع يكشف عن خواء الدور الذي لعبته وتلعبه المجالس منذ مطلع الألفية الجديدة؛ على خلاف الدور الذي كانت تقوم به قبل عقود، باعتبارها تحمل طابع، قلَّ أو كثر، مجالس محلية للحكم.

يمهِّد لذلك محذِّراً من خطورة أن يكون المواطن مجرَّد وسيلة لوصول أشخاص بفعل الرشوة أو المذهب أو العرْق إلى تلك المجالس، ويرى في ذلك «خطورة على الأمن الوطني والاجتماعي»، ويكشف ذلك عن أن المواطن «لم يعد يهتم بمصالحه الحقيقية عندما يدخل في عملية مقايضة»، ذلك من جانب، من جانب آخر يعكس جهل كثيرين بطبيعة العمل البلدي، ودور تلك المجالس، كما يقول المرباطي «الحالة الحقيقية لما يشاهده المواطن من الدور المحدود للعمل البلدي الذي تقزَّم وانحصر في نطاق محدود، وهي الحقيقة التي تشكَّلت من خلالها قناعات الناس بأن المجالس البلدية هي أجهزة برتوكولية مجرَّدة من الصلاحيات».

في المقدمة نفسها، يكرِّر المرباطي ما بات معروفاً اليوم، من أن المجالس البلدية لا يتحدَّد دورها في القيام ببعض الأشغال والخدمات العامة، بوجود مؤسسات عامة وخاصة يمكنها لعب ذلك الدور، طارحاً السؤال الذي يعرف إجاباته كثيرون؛ وخصوصاً الجهات الرسمية؛ ولكنها لا تريد أن تذهب أبعد من السماح بطرح مثل تلك الأسئلة؛ طالما أن الإجابة لا تتحقق على الأرض بمزيد من الصلاحيات، ومزيد من القوانين التي تنظم العمل البلدي، وتمنحه مساحة وفضاء من التحرك الذي يمكن أن يثمر عن تنظيم في عملية التنمية، وتفعيل مبدأ المشاركة.

اللامركزية في توزيع الاختصاصات

في الفصل الأول من الكتاب يتناول غازي المرباطي، الفلسفة اللامركزية التي تقوم عليها المجالس البلدية، كمبدأ ديمقراطي في توزيع الاختصاصات، والأدوار التي من المفترض أن تقوم بها. كما يتناول الكاتب جانباً من فلسفة النظم الإدارية للمجالس البلدية، من خلال نماذج عالمية متقدِّمة، انتخب منها النظام الإنجليزي بتقسيم الدولة إلى وحدات إدارية، والوحدات إلى المحلية إلى مقاطعات حضرية وعادية، وتقسيم المقاطعات إلى مراكز، تبعاً لعدد السكَّان. والفرنسي الذي يعتمد الإقليم، والمحافظة، والبلدية، والروسي، والذي يتبنَّى التسلسل الهرمي في تنظيم السلطات البلدية، وعلاقات الوحدات بعضها بعضاً بناء على الترتيب الرئاسي.

جوانب تنظيمية وإدارية بحثها المرباطي في الفصل الأول من الكتاب، ولعل أكثرها لا تعني القارئ العادي في شيء، وإن عنَت عضو المجلس البلدي، وأكثرهم لا يعيرها اهتماماً، ولا إلمام لديه بجوانب منها! من بين ذلك، فلسفة الموارد البلدية، وفلسفة التشريعات البلدية، وفلسفة الرقابة على المجالس البلدية، وفلسفة صلاحيات المجالس، وذكر في هذا الشق من التناول، بأنها «الإرادة التي تبث الروح في الكيان البلدي، وغيابها يكون بمثابة نزع حيويتها ونشاطها وتعطيل عملها».

كما يتناول المرباطي، فلسفة انتخاب أعضاء المجالس البلدية، متناولاً فلسفة التعاقد، وفلسفة الإدارة والحكم المحلي.

تاريخ البلديات في البحرين

في الإطلالة التاريخية على العمل البلدي، يأخذنا المرباطي إلى بواكير التجربة التي انطلقت في 14 يوليو/ تموز 1919 ، بقيام بلدية المنامة، و «كانت من أوائل البلديات التي أنشأت في المنطقة العربية»؛ علاوة على صدور قانون البلديات في العام 1920، والقاضي بإنشاء بلدية المنامة «ويعتبر أول قانون للبلديات في البحرين والمنطقة».

ويتطرق المرباطي إلى الإدارات التي اشتملت عليها البلديات، الخدمية والمهمات والمسئوليات المنوطة بالحكومة: المرافق العامة، المنشآت الصحية، الترخيص للمحال التجارية، فرض الرسوم والضرائب، تنظيم الأسواق العامة، مراقبة المسالخ، بعض الأعمال الإنشائية كتوسعة الشوارع، تسوية الطرق، الإشراف على الموانئ، مكافحة الملاريا، الإشراف على التجارة الداخلية والخارجية وغيرها من المسئوليات والمهام.

مروراً بلمحة تاريخية تزامنت مع إقرار قانون البلديات بتحديد موازنة للمجالس البلدية وصلت في العام 1920 إلى 6040 روبية، خصصت للمصروفات. ويشير المرباطي إلى حجم المسئوليات والعمل الكبير الذي كانت تقوم به، والموازنة المخصصة للمصروفات، مؤكداً «أن العمل البلدي كان تطوُّعياً إلى حد كبير» بالنظر إلى عمل المجالس البلدية في الوقت الراهن.

كما يضيء المرباطي جانباً من أول انتخابات بلدية في البحرين، والتي تمَّت «وفق التصنيف الفئوي لسكَّان البحرين»، بين أعضاء منتخبين ومعيَّنين يمثلون - تقريباً - التنوُّع السكَّاني في البحرين، واستمرار المجلس البلدي حتى مطلع خمسينات القرن الماضي «حين حدث تحوَّل مُهمٌّ العام 1949 في نظام الانتخابات البلدية، بعد إجراء تعديلات جوهرية على قانون الانتخابات، تغيَّر بموجبه نظام الانتخابات من نظام التمثيل الطائفي إلى نظام الدائرة الانتخابية».

مشاركة المرأة في الانتخابات

تحقق للمرأة في وقت مبكر من تاريخ البحرين، وبداية قيام المؤسسات الحديثة، حق المشاركة في الانتخابات البلدية، وللمرة الأولى في العام 1950.

ويورد المرباطي في كتابه أنه «في العام 1950، شاركت المرأة في انتخابات الهيئة البلدية المركزية، وظلَّت الانتخابات البلدية منذ بدأت في العام 1924 مستمرة، وتجري كل ثلاث سنوات حتى العام 1952».

ومن بين الإضاءات التاريخية للعمل البلدي، الفقرة التي تتناول حداثة التجربة البلدية وانعكاساتها السلبية، وذلك بسبب عدم توافر الثقة والوعي لدى الشعب البحريني، أو الدراية بالتجربة البلدية الوليدة «وكان ذلك سبباً مباشراً في نهاية تلك الحقبة التاريخية المهمة في الحياة البلدية في بلادنا، بدليل ما جرى من تجاهل خلال انتخابات بلدية المحرق في عامي 1929 - 1930، من قبل المواطنين».

قُيِّض لتلك التجربة أن تمر بنهاياتها مع حلول العام 1970، حيث لم يتقدم لانتخابات ذلك العام سوى ثلاثة مترشحين، بسبب ظروف أدَّت إلى مقاطعة عريضة للانتخابات؛ ما اضطر الحكومة «إلى اعتماد مبدأ تعيين أعضاء المجلس البلدي، وأجرت بعض التعديلات الجوهرية على قانون البلديات، وبذلك أفرغت القانون من مضمونه الإيجابي».

يتناول الكتاب حادثة البلدية في العام 1956، وأحداث الخمسينات، وغيرها من الحوادث والإضراب العام، والتبعات التي رافقت أحداث البلدية بانتهاء مرحلة المستشار البريطاني تشارلز بلجريف.

ويصل المرباطي في كتابه إلى قانون البلديات رقم (35) لسنة 2001، والذي ترافق مع المشروع الإصلاحي، والانتقادات التي تعرض لها القانون، ومواقف النواب من تعديل القانون؛ ولعل أهم ما جاء في تناول قانون البلديات الجديد إشارة المرباطي إلى عدد من العيوب التي اتسم بها المجلس البلدي، من بينها عدم تبنّيه لقضايا التعدي على أملاك الدولة، وعدم توسيع صلاحيات المجالس البلدية، وعدم تحويلها إلى سلطات محلية، والتداخل بين مهام وصلاحيات المجلس البلدي مع أداء الأجهزة التنفيذية والحكومية، وعدم تشييد مرافق الخدمة البلدية التي تستجيب لاحتياجات السكَّان، وعجز المجالس عن القضاء على الرشوة والفساد الإداري.

يمتاز الكتاب عن غيره من الإصدارات التي تناولت المجالس البلدية، أنه وقف على العوار والخلل والأخطاء التي انتابت التجربة التي كان من المفترض بها أن تتعمَّق وتصبح نموذجية، فيما هي تتراجع وتُهمَّش وتُجرَّد من الأدوات التي تكفل لها تحقيق مهامها.

نختم بسؤال، وفي ظل الأجنحة المتكسِّرة للمجالس البلدية التي كانت تتحرك في فضاء رحب: إذا كانت تلك المجالس، والتي من المفترض بها أن تكون مجالس للحكم المحلي قد جُرِّدت من كل قيمتها وصلاحيتها؛ وحتى على المستوى الخدمي باتت عاجزة عن أداء دورها كما يجب؛ فهل يستغرب المرء كل تلك الالتفافات والحرص على قانون يلجم المجلس النيابي، ويحدُّ من صلاحيته؟!

ربما نُعيد الكلام في المُفْتَتَح: الحنين لا يصنع تجربة، كما أنه لا يُعيد النموذج الغائب؛ ما لم تتدافع المبادرات، وتجد الأرضية والظروف الملائمة لها كي تتجسَّد على الأرض.

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
بلدية المنامة في ثلاثينات القرن الماضي
بلدية المنامة في ثلاثينات القرن الماضي

العدد 4656 - السبت 06 يونيو 2015م الموافق 19 شعبان 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً