العدد 13 - الأربعاء 18 سبتمبر 2002م الموافق 11 رجب 1423هـ

بعد خطاب بوش: صفقات الكواليس والعودة إلى البازار

بغداد - عصام فاهم العامري 

18 سبتمبر 2002

لا تزال ردود الفعل تتوالى على خطاب الرئيس الأميركي جورج بوش الابن في الجمعية العامة للأمم المتحدة. وإذا كانت ثمة ظاهرة مميزة لهذه الردود فهي حدوث ذلك التوافق غير المنظور مع الاستخدام الأميركي للمنظمة الدولية لأغراض الحرب تأسيسا على مبدأ بوش الجديد لشن الحرب الوقائية.

لذلك ركز الرئيس الأميركي في خطابه الاسبوعي إلى الأميركيين على استثمار هذا التوافق، وقال بوش إن دعوته لاتخاذ إجراء تكتسب تأييدا بعدما رفض العراق تماما مطالب أميركية بعودة سريعة وغير مشروطة لمفتشي الأسلحة التابعين للأمم المتحدة. وقال إن الكثير من القادة الأجانب «توصلوا للنتيجة نفسها التي وصلت إليها»، وأضاف «صدام أقام الحجة على نفسه».

ولكن هذه «الحجة» التي يتحدث عنها لم تحصل في ظل وجود مثل هذا التوافق على العودة إلى الأمم المتحدة في الموضوع العراقي، إلا على طرح الأوراق الدبلوماسية والبحث من جديد في قائمة الأولويات لهذا الطرف او ذاك من الاطراف الدولية والإقليمية في حسابات جديدة يرتفع فيها البارومتر لصالح أميركا حينما تترك لغيرها ما يرغب من مصالح هنا أو هناك في اطار لعب أضحى على المكشوف داخل أروقة مجلس الأمن وكواليس الأمم المتحدة.

ولعل ابرز هذه الأوراق ما يصفه المراقبون الدبلوماسيون بكونه وضعا لم يطرح من قبل، «فالمسألة العراقية تعتبر سابقة على الساحة الدولية»، لأن ضمان نهاية إيجابية للتدخل في العراق مجرد «وهم». سيما وان الشرق الأوسط في حقيقته يجسد «خلاصة كل التصدعات في العالم»، خصوصا النزاع الفلسطيني الإسرائيلي والغموض المخيم على مستقبل السعودية والتوتر في تركيا وتصاعد المشاعر المعادية للغرب في العالم الإسلامي.

ويبدو ان جدل الاسابيع السابقة الذي قام بين الولايات المتحدة التي تعتبر أن لها الحق في الإطاحة بالنظام السياسي في العراق، وبين غالبية كبرى من دول أوروبا والشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية التي ترفض منح أميركا حق التحرك من طرف واحد، لم يعد بالحدة نفسها بعد خطاب بوش في الجمعية العامة للأمم المتحدة. فمرحلة ما بعد خطاب الرئيس الأميركي وما قبل استصدار القرار المطلوب أميركيا من مجلس الأمن الدولي ستكون بداية لمفاوضات مكثفة من وراء الكواليس للتوصل إلى الحوافز والتسويات اللازمة لاستمالة دول لا تزال محجمة حتى الآن، علنا على الاقل، عن الانضمام إلى حملة عسكرية اميركية لغزو العراق، وعلى سبيل المثال يتوقع المراقبون ان تطلب تركيا، مقابل مشاركتها في الحملة، اسلحة وتخفيفا لديونها، فيما يتوقع الروس والفرنسيون ان يسمح لهم بالعمل في استثمار حقول النفط العراقية، وتتوقع قطر دورا اقليميا يتجاوز حجمها عبر تسهيلات «العديد»، بينما الاردن - وكما متوقع - يريد ضمانات البقاء واتساع الدور الهاشمي، والسعودية تخفيف الضغط عليها ونزع المطالبات بالتعويضات عن هجمات مانهاتن.

ويرجح ان تقدم دول اخرى كثيرة مطالبها لقاء الانضمام إلى الحملة. وهذا ما تؤكده (دانييلا بليتكا) المساعدة السابقة في مجلس الشيوخ الاميركي والمسئولة حاليا في أحد المعاهد الاميركية للبحوث، اذ تجزم ان دول منطقة الشرق الاوسط ستتعامل مع الولايات المتحدة من منطلق تجاري، لانها تدرك ان «الولايات المتحدة ترغب في الشراء».

ويقينا إن تركيز الادارة الاميركية الأول سيكون على الدول الاعضاء في مجلس الامن، خصوصا روسيا وفرنسا والصين، اذ ان تأييد هذه الدول سيصبح عاملا مهما في ظل محاولة الولايات المتحدة اقناع مجلس الامن بالقرار الجديد الذي تسعى اميركا ليكون «قميص الشرعية الدولية» الذي تتلبسه للوصول إلى اهدافها في الشأن العراقي. فهل ستدور المساومة بين موسكو وواشنطن حول اطلاق يد موسكو في جورجيا مقابل اطلاق يد واشنطن في العراق؟ سؤال سيظل مطروحا في الاسابيع المقبلة إلى ان تتضح الصورة.

بيد ان المسئولين الأميركيين سيحاولون ايضا اقناع الكثير من الدول الاخرى في منطقة الشرق الأوسط وغيرها بغرض التعاون مع الحملة العسكرية او على الاقل تهدئة معارضتها عبر منهج العودة إلى مساومات السوق التي طرحها مارتن انديك في مقاله في «الفورن افريز» (عدد ابريل/ نيسان الماضي).

ولا يزال البنتاغون في حاجة إلى الحصول على التزامات من الدول المجاورة للعراق بشأن القواعد العسكرية والتحليق في اجوائها، وتعكس هذه الجهود تجربة مساعي الولايات المتحدة لبناء تحالف على غرار ما حدث في حرب الخليج الثانية العام 1991 او على غرار الهجوم الذي شنته الولايات المتحدة على حكومة طالبان في افغانستان العام الماضي، الا ان المهمة الجديدة لن تكون سهلة، اذا ان الكثير من الدول أبدى شكوكا ازاء الحاجة إلى حرب ضد العراق، فضلا عن ان الولايات المتحدة لن تتلقى هذه المرة مليارات الدولارات التي ساهمت بها السعودية والكويت ودول اخرى في حملة العام 1991.

ومؤكد أن لذلك تغذيته العكسية على مدى التأييد الذي سيظهره الداخل الاميركي لهذه الحرب التي عكست مظاهرات (لوس انجليس) و(سان فرانسيسكو) أمس الأول مدى جزع الداخل من حروب ادارة بوش التي لا طائل منها وذات الانتصارات الناقصة والمشكوك بها كما حصل في الحرب على افغانستان.

فمعارضة الدول للغزو هذه المرة ليست تعبيرا عن صوت عالٍ بقدر ما هي تعبير عن هواجس حقيقية. هذا يعني احتمال ارتفاع ثمن شراء تأييدها. وتبدي غالبية الدول استياء ازاء أي حديث عن احتمال شراء تأييدها، فهذه الدول تصر على ان ضرورة مثل هذه الصفقات تنبع من الحاجة إلى تقليل النفقات الاقتصادية والمخاطر السياسية التي ربما تترتب على تعاون هذه الدول مع حملة اميركا لغزو العراق، التي من المؤكد ان تكون لها نتائج كارثية على تكوناتها ووجود كياناتها بالصيغة الحالية. وعلى سبيل المثال فتركيا التي تعد الحليف المقرب لاميركا ما زالت تبدي قلقها من قيام دولة كردية في خاصرتها الجنوبية الشرقية، فضلا عن العبء الاقتصادي الكبير في وقت تحاول فيه الدولة معالجة مشكلات اقتصادية طاحنة. لذلك، فإن المسئولين الاتراك صاروا يلوحون بقائمة مطالب طويلة تشتمل على الحصول على اسلحة متطورة والغاء لديون تقدر بخمسة مليارات دولار للولايات المتحدة. كما اوضح مسئولون اميركيون انها تطمح أيضا إلى مساعدة الولايات المتحدة في التأكيد على استمرار تلقيها للائتمانات التي يقدمها صندوق النقد الدولي.

وربما ستضغط الصين مقابل عدم الاعتراض بشدة على العمليات الاميركية في بغداد، بتحقيق رضاها بخصوص أكبر اهتماماتها الدبلوماسية: تايوان. ومن المؤكد ان هذا القضية ستثار خلال لقاء الرئيس الصيني جيانغ زيمين مع الرئيس بوش في (تكساس) الشهر المقبل، ولا تشعر الصين بالرضا عما تراه ميلا من ادارة بوش نحو تايوان.

اما الموقف العراقي فقد اوضحه نائب رئيس الوزراء العراقي طارق عزيز خلال لقائه مع احدى الشبكات الدولية في معرض رده على سؤال: عن اية جهة يعول العراق في الاعتماد عليها؟، فأجاب عزيز قائلا: الله وأنفسنا: وهو في ذلك يكرر روح ومضمون الرسالة التي وجهها الرئيس صدام حسين إلى العراقيين اكدت على اهمية أن يبدأ النصر من انتصار النفس أولا.

والواضح ان هناك فارقا ما بين الاثنين (العراق والولايات المتحدة) وفق قياسات زمن العولمة والقياسات المادية فالادارة الاميركية تمتلك وسائل الضغط والاغراء المادي لالحاق الآخرين بجوقتها، اما العراق فاعتماده على الذات العراقية المحدودة الامكانات المادية قد لا توفر له سبل النجاعة في مواجهة انياب الغول المفترس. ولكن يبقى لحسابات الروح طاقاتها (التي لا يمكن قياسها) في القدرة على رسم معادلة سياسية على غرار المعادلات الرياضية التي تنتمي إلى عالم نظرية (الشواش) في الرياضيات المعاصرة.

وهكذا تبدو الصورة جلية الآن أن الرئيس بوش الابن وإن كان ما زال يعيش في جلباب ابيه، الا ان الجلباب نفسه لم يعد مناسبا فقد اصبح من الاسمال، على أية حال فان السؤال يظل مطروحا: هل سيكون صمود العراق طوال عقد ونيف وهو يواجه منفردا القوة الاميركية كفيلا له امام الآخرين لكي تثقل موازينه؟ ام ان مقاييس السوق في البيع والشراء لا تتضمن مثل هذه السلعة؟

سؤال بالنسبة لنا لا تزال اجابته غير واضحة

العدد 13 - الأربعاء 18 سبتمبر 2002م الموافق 11 رجب 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً