على رغم مرور 140 سنة على بناء قصر عابدين فهو مازال شامخا كشاهد عيان على الحوادث التاريخية والسياسية الجسام التي أثرت في مجريات الأمور وحولت دفة التاريخ بداية من مطالب الأمة على يد أحمد عرابي 1881 وحتى أزمة مارس/ آذار 1954 بين الرئيسين محمد نجيب وجمال عبدالناصر وظل يستخدم مقرا حتى العام 1984.
تعاقب على القصر ستة ملوك بداية من الخديوي اسماعيل وحتى الملك فاروق آخر أبناء اسرة محمد علي، وكان أول مقر رسمي للحكم في مصر بوسط القاهرة بعد قلعة الناصر صلاح الدين.
وشهد القصر خلال حقبة من الزمن إهمالا جسيما إلا أنه استعاد شبابه من جديد في عهد الرئيس حسني مبارك الذي اصدر أوامره إلى رئيس ديوان رئيس الجمهورية زكريا عزمي بإعادة كل شيء إلى ما كان عليه وتطويره في طفرة غير مسبوقة نرصدها لبيان حكاية قصر عابدين بين الأمس واليوم، ومكوناته وتاريخ إنشائه وما آل إليه بعد ان تركه جمال عبدالناصر كمقر للحكم بعد أزمة مارس.
الروايات تقول إن الخديوي اسماعيل قرر إقامة القصر على أطلال منزل كان يملكه «عابدين بك» أحد أمراء الأتراك وقد اشتراه منه وانتزع ملكية مئات المباني والدروب التي تحيط به في دائرة مساحتها 24 فدانا واستغرق بناؤه 10 سنوات من العام 1863 حتى 1873 وتم السكن فيه رسميا العام 1874. وقام بتصميمه المهندس دي كوريل روسو وعدد ضخم من النقاشين المصريين والايطاليين والفرنسيين والأتراك، وبلغت تكاليف بناء القصر في ذلك الوقت 700 ألف جنيه فيما عدا الأثاث الذي تكلف مليوني جنيه وتوالت تحسينات الحكام بالتغيير والتبديل وإضافة الأثاث والاجنحة.
واعتبر قصر عابدين مقر الحكم الرسمي منذ إنشائه وحتى قيام ثورة يوليو/ تموز وكان من بين إدارات القصر «ديوان الملك». ويتكون من الإدارة العربية التي سميت في العام 1974 بالادارة العامة الإفرنجية و«ديوان كبير الأمناء» وهو الخاص بالتشريفات والحفلات و«ديوان كبير الياوران» ويشمل قسم الحرس والبوليس واليخت محروسة المخصص لانتقالات الملك في البحار والسفن النيلية. وإلى جانب تلك الادارات كانت هناك إدارات الأعمال الخاصة التي لا تمت بصلة للدولة، كنظارة الخاصة الملكية التي تدير شئون القصور الخاصة والصيدليات والعربات والركائب وكل احتياجات الملك.
ويضم القصر 500 غرفة وقاعة بخلاف الممرات وكان بكل غرفة عدد كبير من التحف. أما الأرض فهي من المدمر الملون المنقوش والأبواب والنوافذ من الزجاج الذي رسم عليه لوحات ملونة لأشجار وبحار وملائكة وطيور. أما السقف ففيه نقوش هندسية دقيقة وبارزة مذهبة فيها زخرفة عربية وإسلامية ومنها الزخرفة الايطالية.
المتجول في القصر يلحظ مدى فخامة سلالم التشريفات المؤدية لداخل القصر، فما إن صعدنا السلّم المغطى بالسجاد الأحمر المفروش كمشايات على الألبسة الفاخرة تواجهنا مجموعة ضخمة من المرايات البلورية الرائعة.
وفي الدور الأول نجد يسارا «صالونين يؤدي ثانيهما لصالون قناة السويس الذي لم يشهد احتفالات القناة - والذي يؤدي للشرفة المؤدية لميدان عابدين «الجمهورية حاليا» وما إن نتجول قليلا حتى ندخل لغرفة المائدة الصغيرة المطلة على الحديقة الشتوية».
ولو تركنا هذا القاعات بجوار صالون «محمد علي» وهو من أكبر صالونات القصر نرى أمامه مسرحا يعد تحفة فنية على بابه مجموعة آلات موسيقية للملكة نازلي. وننتقل لقاعة العرش (عبارة عن ميدان فسيح) من الباركيه وهي قاعة عربية الطراز. وهناك باب يفصل هذا الجزء. والجزء الآخر يسمى «الحرملك» ولا يسمح بالدخول إلا لمن يحمل علامات مميزة وهذا الممر الطويل يقودنا لـجناج الملك المفروش بأفخر أنواع السجاد ويتكون من عدة غرف إحداها مكتب والأخرى صالون استقبال بالإضافة لحجرة النوم والحمام وجناحي الملكة والملكة الوالدة «نازلي» وجناح الضيوف الأجانب. وكل هذه الاجنحة تقع بالدور العلوي من القصر، أما الدور الأرضي فيضم حديقة القصر على مساحة 19 فدانا.
ويوجد مكتب كان يستخدمه الملك في تناول أشهر المأكولات الساخنة بدلا من انتظار السفرة وكان هناك ورشة للمكوجية حكومية وخاصة.
على رغم كل المقومات الفنية والمعمارية والتاريخية للقصر إلا أن يد الاهمال اغتالته في بعض السنوات، وتعرضت بعض القصور في حقبة من الزمن - ومنها قصر عابدين - للإهمال. وقد اقتطعت أجزاء كبيرة من هذا القصر بعضها لمؤسسات حكومية كمحافظة القاهرة وبعضها للاتحاد الاشتراكي، الذي صار مقرا للحزب الوطني فيما بعد. وأكبر دليل على عدم الاعتناء بهذا القصر «بناء مدرسة» بشكل عشوائي داخل حديقة القصر، وتخصيص جزء من القصر كمتحف للجمهور من سنة 53 وحتى 1959 من دون دراسة كافية ما أثر تأثيرا «بالغا» على حالة القصر وأدى إلى اغلاقها بعد ذلك.
ترجع بداية الاعتناء بالقصور إلى أواخر عهد الرئيس الراحل أنور السادات، ومنها «قصر عابدين» الذي كان قريبا من مقر إقامته، وقد صارت القصور الملكية قصورا للرئاسة. وقد تبنى الرئيس حسني مبارك قضية الاهتمام بالقصور وأمر بإعادة القصور لما كانت عليه من رونق وجمال بصفتها من كنوز مصر وتولى رئيس الديوان زكريا عزمي مسئولية تنفيذ أوامر الرئيس مبارك وبالفعل تم تجديد القصر وإعادته إلى ما كان عليه.
وتم اهتمام بالمتاحف الموجودة وخصوصا متاحف القصر لأهميتها تاريخيا وأثريا، ووصل عددها إلى أربعة متاحف.
وتضم متاحف القصر، متحف الأسلحة والأوسمة والنياشين ومتحف السلام الخاص بمقتنيات الرئيس مبارك والسيدة قرينته.
الخديوي اسماعيل بنى هذا القصر لينقل به مقر الحكم من قصر الجوهرة بالقلعة إلى قصر عابدين، وكان من أهم دوافعه لبناء هذا القصر عمل احتفالية لافتتاح القناة لكن القصر لم يكن قد انتهى إنشاؤه بعد، مما اضطره لإقامة الحفل بقصر الجزيرة «فندق ماريوت حاليا». وتعد قاعة قناة السويس من أهم قاعات القصر وبها ثلاث لوحات فنية رائعة وغاية في الجمال تجسد افتتاح قناة السويس.
أقيم القصر على مساحة 5 أفدنة من إجمالي 24 فدانا. وكانت مساحة الحدائق 19 فدانا، وتعاقب على حكم القصر 6 ملوك أولهم الخديوي اسماعيل منذ إنشائه العام 1863 وحتى العام 1879 ثم توفيق حتى 1892 ثم عباس حلمي حتى العام 1914 ثم السلطان حسين كامل حتى 1917 ثم فؤاد حتى العام 1936 وأخيرا الملك فاروق حتى العام 1952.
وتقلصت غرف القصر إلى حوالي 300 غرفة الآن وكان القصر مقرا رسميا للحكم حتى أيام الزعيم الراحل جمال عبدالناصر وتقام فيه المناسبات الرسمية. وتحول القصر في عهد الرئيس مبارك لقصر ضيافة واصبح مقر رئاسة الجمهورية مكان مبنى الوزارة الاتحادية السابق بمصر الجديدة.
يذكر أن من الاحداث المهمة التي شهدها قصر عابدين حادث 4 فبراير/ شباط 1942، حينما أصر السفير البريطاني على تولي مصطفى النحاس رئاسة الوزراء، لدرجة أنه أعطى إنذارا للملك فاروق إذا لم يسمح قبل السادسة مساء اليوم نفسه بأن بتولى النحاس الوزارة ستتدخل بريطانيا في شئون القصر!
وبالفعل تقدمت الدبابات البريطانية وقابل اللورد فاروق بمكتبه وقال له أمامك أحد خيارين، أما أن تستدعي النحاس أو أن توقع وثيقة تنازل عن مصر مما اضطر فاروق لتلبية طلبه وتولى النحاس رئاسة الحكومة.
ومن بين الأحداث المهمة في تاريخ مصر وشهدها القصر الأزمة التي نشبت بين محمد نجيب وجمال عبدالناصر والمعروفة بأزمة مارس/ آذار العام 1954 بعد قيام الثورة.
خدمة (أ. ب
العدد 42 - الخميس 17 أكتوبر 2002م الموافق 10 شعبان 1423هـ