العلم في نهايته، ان انتهى، يصل، كأنه يصل، ولولا ان الاحتمال شراعه وفضاؤه المفتوح على الريح والموج والشطآن والأعماق، لأقام ونام عن شواردها في محطات الوصول على رصيف الظن ووسادة اليقين، ولكنه العلم في لحظة الوصول، ما يبدو وصولا يعود فيسكنه السؤال فيترعرع.
والفن / الشعر منه بامتياز، والفنان / الشاعر بامتياز، كل يظن انه وصل، يسترخي في ظنه ريثما يأتيه اليقين الذي لا يفارقه إلا ليعاوده، يقين بأنه لن يصل، فيعاود استحالاته وارتياداته بمظانّ الاسرار.
واهل الذوق، يُفقرون الذائقة بالصوم وهو ارتفاع بالاعراض على جوع وشوق محتدم، فتربو حساسيتهم، حتى ليتذوقون طعم الهواء والماء، ويعاينون الروح ويبلغون المعنى! يصلون؟... وعندما يحطون حالهم ورحالهم ومتاعهم، يحلّون منطقة الخصر، ينامون في (ثقب الابرة، يمر بهم الخيط فلا يلتفتون، لا يحزنون ولا يفرحون) وفي آخر مرامي الكشف يدركهم ليل جديد وعتمة مستأنفة فيستأنفون السفر.
يصل العلم والفن والذوق إلى معاينة الواحد في المتعدد والمتعدد في الواحد، يقيم الواصلون حوارا، يقومون ويقيمون في الحوار، فتراهم ذاهبين وهم آيبون، قاعدين نائمين يقظين، قارّين كما لو كانوا مسافرين ومسافرين كما لو كانوا قارّين.
ويخشى الله من عباده العلماء، حصرا بإنما، التي تنفك إلى ما النافية وإلا، ولكن ابن عربي يرفع الهاء بدل نصبها بالفتح في اسم الجلالة، وينصب الهمزة المفردة بدل رفعها من العلماء، من دون ان يلتفت إلى اعتراض معترض، كأنه يرفع العارفين، من اي طريق أتوا، إلى ظل سدرة المنتهى، ولا يكذب الفؤاد ما يرى، وينام العارف بارد البال... المعرفة هناءة مشروطة بالمعرفة بدءا ودواما، والجهل هناءة اخرى مشروطة بالجهل بدءا ودواما.
اهل الفن أو الذوق، اذ تسعفهم الذائقة، بمجاورة أو مقاربة أو معاقرة الحقيقة، أو بالرؤية، باكتناه الموصود في المشهود، يندهشون... الفن دهشة ما، ومن دهشته يَدهش، من يَدهَش يُدهش، اما الكشف فهو دعوى مدهشة إلى حد التهمة وإقامة الحد (الحلاج السهروردي) وتدخل الدهشة سربال معادلتها الجدلي (وحدة الوجود أو الموجود أو الاتحاد أو الحلول)، وعند الشاعر يبدأ الجنون وخلخلة العقول والهتك العظيم (ادونيس) يقول ادونيس للفرات ان يحتدى لسقيفة، يمنع غير الشعر ان يبايع الخليفة، يقنّع الشجر العاري بالاطفال، يسمع العقارب كيف تضيء، يهدي القطا في المجاهل، يوشوش الحجار.
ويعترف الشريف الرضي:
«يارُبّ جوهر علم لو أبوح به/ لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا/ ولاستحلّ رجال مسلمون دمي/ يرون أقبح ما يأتونه حسنا».
وينظم السياب نخيل «جيكور» ان عصته القوافي، يرى قوافل الاحياء ترحل عن مغانيها، تطاردها وراء الليل اشباح الفوانيس. ويقول رفيقه السكران دعها تأكل الموتى، مدينتنا لتكبر، تحضن الاحياء، وتدور جماجم الاموات من سكر مشى فينا... وتسقط قطرة ندى على عين صلاح عبدالصبور، ذات ليل صيفي في عزبة نخل اسفل الدلتا: «جام وابريق وصومعة وسماء صيف ثرّة النعم».
ويتمتم صلاح: «يا اخوتي النوّام ما احلى الكرى وسذاجة الفكر؟، ويستذكر ليلته الملتبسة في فيينا عاصمة «اتريش» حيث «وقفت قربها، اضمها، اشمها... النبض نبض وثنيّ، والروح روح صوفيّ سليب البدن» وينبهر «يا جسمها الأبيض قل: أأنت صوت؟ فقد تحاورنا كثيرا في المساء!».
ويضيع سعدي الشيرازي، يدور به وعليه الأمر«أنا سكران وأنت مجنون فمن يدلنا على البيت اذا؟»... المؤمن عن فطرة «والفطرة علم التوحيد. التي فطر الله الخلق عليها حيث اشهدهم، حين قبضهم من ظهورهم وقال لهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى... فشاهدوا الربوبية قبل كل شيء» (فتوحات ابن عربي). «والفطرة معرفة تكاد لبداهتها وبراءتها تبدو وكأنها من لدن، لعلها كذلك، وما من حيلة للمعارف المحصَّلة إلا ان تضارعها أو تقاربها أو تسامتها أو تستعيدها أو تعتصم بها «رؤية البصيرة علم. ورؤية البصر طريق حصول العلم» ابن عربي. غير انها (اي المعرفة عن فطرة) لا تكثر ولا تربو ولا تزكو ولا تتحصّل، وهي مرصودة بالنقصان والفقد، والمؤمن عن فطرة، الواصل الذي لم يبرح ولم يبارح، لم ينشغل ولم يشتغل لا يعاني، يعاني كأنه لا يعاني، يتوجع لا عن جرح، هو الجرح. يكدح العارف أو العالم أو الفنان، كل اهل الأرض يكدحون كل حسب استعداده، ان استمرأوا الكدح أو استطابوا، ولم تدرك ذائقتهم علة المرورة... يكدح الكادح إلى الله فيلاقيه... وألف سؤال... والصيغة خبرية في معرض الانشاء، والله اعلم، وعليه تصبح الخشية غير ذات موضوع ولا محمول، الاّ توضيحا ودفعا للغفلة أو الاغفال، لأن خشية العارف ذات في الذات وبالذات... «فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد»ق:؟؟... وتصبح المسافة النوعية الماهوية بين الإله والمتأله وعيا للالوهة والاناسة، «الالوهة مرتبة للذات لا يستحقها الا الله فطلبت الالوهة مستحقها وهو الله، ما هو طلبها». (ابن عربي)، وترفع فترتفع الاناسة إلى مصاف العين واللسان من دون تنزل أو تنزيل أو كناية يبصر بعين الله ويتكلم بلسانه واذا اراد اراد... ومثلا يقول: كن فيكون بشرط اطعني. ويفّصل المصطفى جمال في الأمر فصلا على حائط (بستان) الطائف في نجواه «لك العتبى حتى ترضى».
ان احتمال الغضب، من طرف النبي المرسل (ص) وهو في حال هي الاقرب لهو تأكيد بأن للكلام موضوعية وليس طريقا فحسب، أو هو طريق إلى طريق، وهكذا دواليك، على نسب متكثرة في الوصول... «فمن كان يأخذ عن الله لا عن نفسه كيف ينتهي كلامه ابدا» (ابن عربي)، ومن وصول ما، إلى حد ما ومن حد ما إلى حال ما ومن حال ما إلى حد ما، لا يبلغ النهاية لأنه هو وحده منتهى النهايات لأنه غاية الغايات، وليس الجمع هنا ترتيبا للايقاع، انه حكاية عن التعدد، تعدد النهايات على تعدد البدايات وانتهائها إلى الواحد يقول ابن عربي في الفتوحات: «اعلم وفقنا الله واياكم ان الحروف امة من الامم منتقون وفيهم رسل من جنسهم ولهم اسماء من حيث هم، ولا يعرف هذا الا اهل الكشف من طريقنا. وعالم الحروف افصح العالم لسانا وأوضحه بيانا. فهؤلاء عوالم الحروف ولكل عالم رسول من إنسهم ولهم شريعة تقيدوا بها ولهم لطائف وكثائف، وعليهم من الخطاب الامر، ليس عندهم نهي، وفيهم عامة وخاصة، وخاصة الخاصة، وخلاصة خاصة الخاصة، وصفا خلاصة خاصة الخاصة». ان اللقيا مشروع مفتوح على احتمالات شتى، بحسب منزلة العارف من لوح الحروف، وعندما تستقر على اللوح، على قلق وسفر، يولد الاحتمال من الاحتمال وينبثق او ينبلج السؤال من السؤال وتتسع الطاقة حتى تكون بابا ويلطف الباب حتى يكون ثقبا كثقب الابرة أو أضيق، وتبقى الحركة منه وإليه سائدة، والابداع فيه وبه ومنه وإليه ومن اجله متجددا، ويبقى العلم والفن متوهجا على ذبالة لا تذوي تضيء، تضوئ ولا تضوي، على مدد ومداد اوسع واعمق واكثف من المحيط، وهو زيت أو من زيت يكاد يضيء ولو لم تمسه نار.
«بك عرفتك، وكل من يفصل بين معرفة ومعرفة، معروف ومعروف، وعارف وعارف، ويفرق بين سكة وسكة، ويباعد بين فرقة وفرقة، قل له: لا عداك ذم، إنك تحيل إلى جهالة جهلاء، إنك تصف جهلا... فمن ولاّك؟! وقل لمن يجمع: عداك ذم (عرفت فالزم)، ومثلك فليخاطب الناس».
كرمى لعينيك، نزعت شجرة الخوخ اوراقها ودخل الجمل في سم الخياط، واختبأ ثمر الدراق في لحاء التين وعاد القمر كالعرجون القديم... هزّي إليك بجذع النخلة... واستوصوا خيرا بعمتكم النخلة، ويختلط مسحوق الطلع بنخيل الكلام، والكلام كلام فيلتبس الكرب بالكرب والسعف بالسعف والتمر بالجمر والرطب بالسغب والفرات بالمهل والوصل بالفصل والوصال بالمطال والوطن بالمحال والموت بالمقال والحياة بالزوال... ولكن وليد المشهداني (وليد جمعة حميد) «يتردى اليوم في موقعة اخرى، ويصغي للدويّ الهرم المصعوق في أروقة الرأس ولا يدري لماذا؟ فلقد قالوا عليك الآن ان تفتح دربا تحت سطح الأرض يفضي للسموات العريضة، غير ان الكلمات المستدقات الحروف لم تعد تحضر غير القلب، اذ داخت ولن تستنشق الليلة موسيقى الليالي، حيث لا يقتصر الامر على ارجوحة مجنونة او سفرة في مدن الحلم». ويسأل وليد: «لماذا تعب الرأس لماذا الخوف من وجهي؟ وما فيه سوى أنف وأذن ومحاجر!!»
العدد 42 - الخميس 17 أكتوبر 2002م الموافق 10 شعبان 1423هـ