لعل الفتوحات المتأخرة عن العهد الراشدي، بضوابطه الفكرية والشرعية، والسلوكيات التي رافقتها أو تأسست على نتائجها، مع اشكالات السلطة وتبادلها والاستيلاء عليها بما رافق ذلك من خلخلة في نظام الأفكار والقيم والعلائق، هي التي دفعت مئات وشرائح اجتماعية إلى قليل أو كثير من الخيبة والاحباط والبلبلة وفقدان المثال أو اهتزاز صورته. كما كان التوسع في الفتح، مشفوعا بحاجة السلطة إلى تكوين العصبية بعد العصبية، قد جعل الأقوام على اختلاف مناشئها وتقاليدها تدخل في النصاب الاجتماعي للأمة. حتى في حال منافاتها للاسلام بنسبة او بأخرى، فأدى ذلك إلى ظهور تيارات فكرية وسلوكية مختلفة. وقد كانت الفترة الفاصلة بين اواخر العهد الاموي ، وبداية العهد العباسي، فترة ارتخاء القبضة القديمة قبل ان تتكون القبضة الجديدة وتشتد، حتى ظهرت وكأنها فترة حريات حصل الكثير من التوسع في ممارستها فمكنت لهذه التيارات ان تظهر وتنتشر غير هيابة... وظهر في ما ظهر تيارات الالحاد والزندقة والتصوف، مختلطة بعضها ببعض احيانا، حد التطابق أو الالتباس.
فالتصوف الذي ظهر زهدا وعزوفا عن الدنيا ومغرياتها وخطابا وعظيا متأسيا بالرسول «ص» والصحابة والتابعين، أضيفت اليه افكار الاحتجاج المباشر او المداور موصولا بالغنوصية المسيحية والباطنية الفارسية، التي انحدرت إلى الثقافة العربية والسلوك العربي منذ بداية النقل والترجمة التي تحولت من ثقافات مرفوضة إلى ثقافات وافدة ومتداخلة على نسق تثاقفي كان يتضمن ايجابيات عظمى كما لم يكن يخلو من سلبيات.
وفي حين كان الالحاد في الفترة الاولى، فترة النبوة والفترة الراشدية، اي فترة الصفاء العربي النسبي، اقرب إلى الكفر السياسي والاجتماعي. شبه منحصر في مسألة النبوة وانكارها باعتبارها شأنا قرشيا حصريا، او المشاركة فيها باعتبارها شأنا عربيا مشتركا وقليلا ما كان هذا الالحاد يصل إلى المسألة الالوهية والربوبية ووجودا أو وجدانية، ما يجعلنا نستذكر ان الجاهلية بحسب الوصف القرآني كانت جاهلية الكفر والشرك أما في أواخر العصر الاموي ومطلع العصر العباسي فقد بلغ الالحاد اعلى درجاته في إنكار الخالق وجحود صفاته الثبوتية، كلها أو بعضها، إلى عدم الايمان بالنبوة والانبياء والرسل وانكار البعث والنشور، وانكار واحدة أو اكثر من ضروريات الدين وتبلور في جانب كبير منه استعادة عقائد دينية قديمة أو مستجدة غير توحيدية وأتى كل ذلك مترافقا مع الدعوة إلى التفسخ والفوضى.
وكانت السلطة في البداية تظهر وكأنها غير معنية بالأمر، إلى أن طاولها النشاط الالحادي والزندقي فتصدت له بتوسع في القتل والقمع والتنكيل، حيث اختلط الدافع السياسي بالدافع الديني.
وهنا يلاحظ المؤرخون ان عددا من مشاهير الملاحدة والمبكرين منهم كانوا معلمين ومربين لكثير من الحكام، مثل عبد الصمد بن عبدالأعلى مربي الوليد بن يزيد والجعد بن درهم مربي مروان بن محمد، ويؤكد عبدالعزيز الدوري ان الجعد كان يبشر بالمانوية ويرى ابن النديم انه أدخل مروان في الزندقة، ومن أبرز الزنادقة في العصر الأموي يونس بن أبي فروة وعمارة بن حمزة، ومطيع بن اياس، ومن المخضرمين، بين الأموي والعباسي اشتهر الحمادون الثلاثة حماد الراوية وحماد عجر وحماد الزبرقان وغيرهم.
ولولا ظهور البعد السياسي ومخاطره على السلطة لما تحرك العباسيون، يقول «فرنشيسكو جيرييلي»: قتل ابن المقفع وهو زنديق ولم يقتل لأنه زنديق «ذلك انه كتب امانا لعبدالله بن علي على المنصور محكما بحيث لم يجد فيه المنصور ثغرة ينفذ منها الى قتله، فغضب على ابن المقفع وأمر بقتله. بينما ظلت المزدكية تعمل بحرية نسبية وتجاهر بالدعوة الى التحلل من القيم وإباحة النساء والأموال ومعها الزرادشتية في ثنائيتها. كما ظهرت الراوندية، وقالت بألوهية المنصور، وظهر المقنع الخراساني وقال بتناسخ الارواح وأسقط العبادات وأباح النساء وادّعى الألوهية، اما صالح بن عبدالقدوس وهو من كبارهم فقد حكمه المهدي بالاعدام فسارع الى إعلان توبته ثم سمعه المهدي ينقضها فقتله. وفي لائحة الناشطين منهم يونس بن أبي فروة ومطيع بن اياس وعلي بن خليل، ويحيى الحارثي ومن أشهرهم عبدالكريم بن أبي العوجاء الذي قال قبيل إعدامه «لقد وضعت في أحاديث نبيكم أربعة آلاف حديث» وعمل بعضهم على إفساد اللغة العربية والذوق العربي لزعزعة العلاقة المعرفية والأدبية بين الناس والقرآن «خلف الأحمر وحماد الراوية والشعر المنحول»
غير أن علماء الامة لم ينتظروا إذنا ولا أمرا من العباسيين لينخرطوا في حوار صبور وعميق وواسع مع هذه التيارات، آخذين في اعتبارهم ان اتباعها قسمان، قسم ضال وقسم مضل، والضال يحتاج الى إعادته الى الصواب والمضل يحتاج الى الكشف حصرا لتأثيراته في أضيق مدى. وقد تمتع بعض من تصدوا لهذا الشأن من أهل العلم والدين بسعة الصدر، حتى استطاعوا ان يستميلوا قلوب عدد من الملاحدة تمهيدا لاستمالة عقولهم ... ويلتقي ابن المقفع بابن أبي العوجاء في الحج فيشير ابن المقفع الى الامام جعفر الصادق في الطواف ويقول لابن أبي العوجاء: «ليس واحد من هؤلاء يستحق اسم الانسانية إلا هذا» فبادر عبدالكريم الامام الصادق بأسئلته وبعد حوار طويل عاد يقول: «لو كان في الدنيا روحاني يتجسد اذا شاء ظاهرا ويتروح اذا شاء باطنا فهو هذا «وأشار إلى الامام، وكان أبو شاكر الديصاني زنديقا فدخل على الصادق قائلا: «يا جعفر دلني على معبودي» وفي نهاية الجلسة قال الديصاني:«أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله». ووفد بعضهم عليه فسألوه كثيرا وكان من أسئلتهم له: «كيف يعبد الله الخلق ولم يروه؟ «فأجاب واصلا بين القلب والعقل في تحصيل المعرفة: «رأته القلوب بنور الإيمان واثبتته العقول بيقظتها إثبات العيان، وأبصرته الأبصار بما رأته من حسن التركيب وإحكام التأليف ثم الرسل وآياتها ومحكماتها واقتصرت العلماء على ما رأت من عظمته دون رؤيته. وبلغ من سماحته الى حد استيعابهم وتحمل شكوكهم الفجة، فقد لقيه ابن أبي العوجاء في الحج فبادره الإمام قائلا: «ما الذي أتى بك؟ وهل اهتديت؟ فأجابه معاذ الله وانما هي سنة البلد، وعادة الجسد، ولنرى ما الناس فيه من جنون وحلق ورمي» ابتسم الامام الصادق ابتسامة خفيفة وقال له «لا جدال في الحج، اذا انتهيت فأتنا» وأتاه فحاوره.
ولأن الامام الصادق كان يرى خطورة هذه التيارات رأى انه لا بد من التعامل المنهجي معها، فكان يلح على تلاميذه في الثبات على الصدق، أوتوخي الحقيقة، مع تأكيد سلامة الطريق اليها ويبعثهم الى امصار المسلمين مسلحين بالعلم والأخلاق، وكان طبيعيا ان تتسع آثاره في العلماء، وفي حقول العلم حتى اصبح مسجد الكوفة جامعة تضج بالحياة.
ويروى عن المفضل بن عمر الجعفي تلميذ الامام الصادق انه سمع حوارا بين عبدالكريم بن ابي العوجاء أحد اصحابه انتهى الى انكار الخالق وان الخلق وجد بالصدفة وليس فيه تقدير ولا ابداع ولا اتقان، وانه لا صانع ولا مدبر، وان الاشياء كلها تتكون بذاتها، فلم يملك نفسه من شدة الغضب فقال لابن العوجاء: ويلك ياعدو الله لقد ألحدت في الدين، ورد عليه ردا طويلا، فقال ابن العوجاء يا هذا ان كنت من اهل الكلام كلمناك وإن لم تكن منهم فلا كلام لك معنا، ولا ينبغي لمثلك ان يجادل مثلنا، لانك تجهل خطابنا ولا تفهم مرامنا، هذا اذا لم تكن من اصحاب جعفر بن محمد الصادق، اما اذا كنت منهم وكنت قد أخذت علمك عنه، وتأدبت بأدبه فاعلم انه لم يكن في هذا خطابه معنا، ولا بمثل دليلك يجادلنا مع كثرة حضورنا مجلسه ومناظراتنا معه، ولقد سمع مع كلامنا اكثر مما سمعت، فما رأيناه ولا سمعناه أفحش في خطابه لنا بمستقبح الخطاب، ولا تجاوز المقبول في القول والفعل معنا، ولا تعدى في جوابنا، وانه للحليم الرزين العاقل الرصين
العدد 56 - الخميس 31 أكتوبر 2002م الموافق 24 شعبان 1423هـ