قرأت مقالا في «الوسط» بعنوان «الجامعيون والحوزويون» في العدد 43، وهو مقال يستحق التمعن فيه لما فيه من إثارات ثقافية وأفكار تختلج في أذهان البعض من هنا وهناك. فأحببت التعليق على ما جاء في مقال الأخ الكريم من خلال عدة نقاط:
أولا: من المفترض في عالم الدين ان يحمل على عاتقه مهمة صعبة جدا وهي التبليغ الإسلامي وحفظ الشريعة الإسلامية، وهي احدى وظائف النبي (ص) التي مارسها بكل ثقله في المجتمع الإسلامي آنذاك، فهو النبي الأمي والمعلم والأستاذ والمربي بكل ما للكلمة من معنى، وقد مارس هذا الدور الكثير من صحابة الرسول الأكرم (ص) وفي مقدمتهم الإمام علي (ع). عالم الدين والطالب الحوزوي عليهما ان يتحملا هذه المسئولية الخطيرة بذهنية علمية ومثقفة بثقافة فكرية إسلامية حتى يمكن لهما ان يمارسا هذا الدور التبليغي في المجتمع. فما المشكلة إذا مارس هذا العالم «الحوزوي» - الذي قضى في الحوزة العلمية 15 أو30 سنة وربما أكثر في البحث والتنقيب العلمي - دور الأستاذية في المجتمع، ان تخصصه في هذا الجانب يفرض عليه ان يمارس دور المبلغ والمربي والأستاذ والمعلم والمهذب في المجتمع. فهل الأستاذية حكر على ذلك الإنسان الذي درس خمس أو سبع أو عشر سنوات في مجال معين وفي دولة ما؟ وهل الأستاذية تنحصر في المدرسة أو الجامعة... فقط حتى تكون محظورة في غيرهما؟
نعم، ليس كل من تطأ رجله الحوزة له الحق في ممارسة هذا الدور المهم، تماما كالجامعي الذي ليس له ان يمارس هذا الدور لمجرد ان وطئت رجله حرم الجامعة، فالمسألة اجتماعية، من ليست له الاهلية لممارسة هذا الدور الخطير عليه ألا يتقدم كما ان على المجتمع ان يلاحظ الشخصيات في عمقها العلمي والفكري والأخلاقي.
ثانيا: هناك أهمية بالغة لمسألة التخصص في العلوم بل في العلم الواحد الذي يحتوي على الكثير من الفروع العلمية التي تحتاج بدورها إلى التخصص فيها، وإلا فإن القضية ستكون مبعثرة من جهة. وستختلط الأوراق من جهة أخرى. وأعتقد انها فكرة واضحة حتى لو حاول البعض التشكيك فيها فما أكثر الواضحات التي توضع على طاولة النقاش.
الحوزة العلمية تعتمد في تدريسها الفقه والأصول والفلسفة الإسلامية والعقائد والمنطق وغيرها، وهي من أساسيات الطالب الحوزوي، بل تصل المرحلة إلى ان يتخصص الطالب في مجال من المجالات العلمية كالفقه والأصول أو الفلسفة والمنطق أو العقائد لينبغ فيه، وهذا نهج أي علم آخر كالطب والهندسة وغيرهما.
فاستغربت كثيرا منطق الكاتب بقوله: «أفقيّة الطالب الحوزوي كثيرا ما تكون منغلقة على الفقه والأصول والمنطق وبقية مواد الحوزة» ويضيف قائلا: «إن ذلك الأفق الضيق يسبب نفرة المثقفين...» وهذا يدل على السطحية في فهم التخصص وعمق المنهج الديني والحوزوي.
فهل التخصص في الفقه والأصول يعد انغلاقا ويسبب النفرة لدى المثقفين؟ ألا يحتاج الكاتب وكل المجتمع إلى الفقه والعقائد والتفسير؟ قد يتخصص الطبيب في مجاله وكذا المهندس فلا تكون أية مشكلة، بل يزاول حياته الاجتماعية بشكل طبيعي، إلا ان عالم الدين أو الطالب الحوزوي إذا ما تخصص في دراسته وزاول حياته الاجتماعية مع الناس تأتي ألف مشكلة ومشكلة، ويشكل ذلك انغلاقا ويسبب النفرة لدى المثقفين، أهذا فهم دقيق ومنصف؟ أهو فهم ينبع من الوعي المسئول؟
على ان الكثير من علماء الدين يملكون الثقافة الإسلامية الواعية على عكس ما يدعيه الكاتب انغلاقا - على حد تعبيره - على الدروس الحوزوية، فإن الواقع خير شاهد على تلك الثقافة الواعية التي يمتلكها الكثير من علماء الدين. حضور فعّال على المستوى الفكري والثقافي للخط العلمائي في غالبية البلدان الإسلامية لذلك أعتقد ان مطالبة الفكر العلماني بفصل الدين عن السياسة والمجتمع ناتجة عن التأثير الواضح والفعّال لعلماء الدين في الأمور السياسية والاجتماعية من خلال الحضور المستمر في القضايا التي يحتاج إليها المجتمع الإسلامي.
ثالثا: أما القضية الأخلاقية التي ذكرها بقوله: «فينظرون إلى بقية الناس نظرة غير متسية لهم» فإنه افتراء على علمائنا وعلى طلاب العلوم الدينية وعلى الحوزات العلمية في كل مكان، ان هذا الصرح القوي الذي بناه الإمام الصادق (ع) للحوزات العلمية والذي يهدف إلى نشر العدالة والمساواة بين طبقات المجتمع، يأتي بعض الأفراد بجرة قلم ليتهموا هذا الخط المتجذر والمتأصل بأنه يتعامل مع الناس تعاملا استعلائيا، وان العلماء يرون أنفسهم فوق الناس، ولا أدري إلى ماذا استند الأخ الكريم في دعواه.
هناك احترام متبادل بين طبقات المجتمع وفئاته ويخص علماء الدين باحترام وتقدير متميّز من قبل المجتمع لأسباب عدة، من أهمها أمر النبي (ص) الناس باحترام طالب العلم ورواة الحديث وخصوصا الذين كان يبعثهم (ص) في حالات تبليغية، وهذا علي بن أبي طالب (ع) على عظمته وقداسته يصفه أحد أصحابه «... كان يتحبب إلى رجال الدين ويودهم...» فلعل الاحترام الاجتماعي هنا ولّد شعورا لهذا الأخ جعله يكيل هذا الاتهام لمثل هذا الخط الأصيل. على ان المبالغات الزائدة من قبل البعض في صورة الاحترام قد تعطي هذا الشعور للكثير من الناس، لذلك فإن أحد العلماء - تفاديا لهذا الشعور - كان يقول لنا وباستمرار «إذا دخلت المسجد للصلاة لا داعي للقيام من أجلي فلتكن الأمور طبيعية» إلا ان المجتمع لما كان متدينا فكان يصر على إظهار هذا الاحترام لعالم الدين من منطلق إسلامي، وهو أمر ممدوح ومطلوب في المجتمع.
أقول لربما الحالات المبالغ فيها تحدث هذا الشعور لدى البعض وإلا فإن القضية الأخلاقية والتواضع من الأمور الأساسية لعالم الدين والطالب الحوزوي.
كما أنني لا أريد ان أعطي صورة بيضاء ناصعة مفعمة بالورود لكل طلاب الحوزة: فهناك حالات استعلاء موجودة لدى البعض والحوزوي إنسان معرّض لمثل هذه الأخطاء بحيث يستغل هذا الاحترام والتقدير من المجتمع للرفعة والاستعلاء على الناس إلا انها لم تكن بتلك الصورة التي أثارها الكاتب.
رابعا: ما هذا التحامل على طلبة الجامعة وكأن هناك حالا نفسية يعيشها الكاتب تجاه الطالب الجامعي، فمرة يتهمه بالجمود الفكري عند مرحلة من مراحله، وأخرى بالتراجع عن بعض الخطوط الدينية، وثالثة بانشغاله بالبناء الذاتي وإشكالات أخرى، فرحت أتساءل مع نفسي هل الكاتب بعيد عن النشاطات الدينية حتى يشاهد الحضور الجامعي على جميع المستويات مع التفاوت من منطقة إلى أخرى؟ وهل البناء الذاتي في هذه المرحلة الصعبة محظور عليه؟
أقول في نهاية هذه السطور - والكلام طويل هنا - هناك خطان في فهم الثقافة والفكر، خط تبعه الشهيد مطهّري وهو حوزوي وجامعي وخط تبعه عبدالكريم سروش فأي الخطين نختار. ثم ان هذه الإشكالات وغيرها لنخبة من العلمانيين الذين حملوا شعار فصل الدين عن السياسة وراحوا يثيرون بعض الإشكالات في المجتمع الإسلامي لتبرير حملتهم على الفكر الديني وعلى رجال الدين في العالم العربي والإسلامي. إضافة إلى انه علينا ألا نخلط الأوراق ببعضها، فقد تكون فكرة معينة لها أرضية صعب طرحها في بلد ما وقد تكون ليست لها أي أرضية في بلد آخر، فإذا كان هناك ما يبرر الطرح العلماني في أوروبا - مثلا - فلماذا نصر على طرحه في بلداننا الإسلامية. وبالتالي فإنني أعتقد ان جدليّة الانفصام بين الجامعة والحوزة لربما تعاني منها بعض البلدان لأسباب معينة ولكن ليست بالضرورة ان تكون هذه الحال في كل بلد من بلداننا، علينا ألا نكون أبواقا للآخرين في فكرهم ونهجهم بل يجب علينا ان ننطلق من خلال الفكر الإسلامي الأصيل
العدد 77 - الخميس 21 نوفمبر 2002م الموافق 16 رمضان 1423هـ